العودة إلى الصفحة الرئيسية لمنصة عين عربيّة

الأربعاء، 19 فبراير 2020

الدرس الأوّل: مدخل عام إلى علم الدلالة

درس عام
رابط التحميل
https://drive.google.com/file/d/0B5OAWpdHaWwBbjdxZ0VUbzhibDQ/view?usp=sharing


الدرس الأوّل :        مدخل عامّ إلى علم الدلالة :  موضوعه، مفاهيمه، أطواره الرئيسيّة.
مقدّمة:
 يعرّف العلم تقليديّا بموضوعه وغاياته ومنهجه ومفاهيمه[1]. ولا يشذّ علم الدلالة عن هذه الأطر المنهجيّة في التعريف، إلاّ أنّ تحديد تعريف جامع مانع لهذا العلم يصطدم بعقبات إبستيمولوجيّة كثيرة: أبسطها أنّ موضوعه (المعنى) عصيّ عن التحديد فهو عند كثير من الدارسين فوضويّ لا يستقيم على حال أو نظام. كما أنّ غاياته تتبدّل بتبدّل أجيال اللسانيّين وتغيّر اهتمامات المدارس اللسانيّة. ولذلك لا نكاد نعثر على منهج مستقرّ في طور من أطوار هذا العلم إلا وتعقبه مناهج جديدة تقدّم مقاربات مختلفة تتجاوز السابق وتضيف مدوّنة جديدة من المفاهيم الدلاليّة.
I- تعريف علم الدلالة وما يثيره من قضايا:
   1- القضايا والمفاهيم الأساسيّة:
أ- صعوبة تقديم تعريف دقيق لعلم الدلالة:
 يعرّف علم الدلالة بأنّه فرع من اللسانيّات يكون موضوعه دراسة المعنى في اللغة. مثلما يكون الصوت وتغييراته موضوع  الصوتيّات وأو تكون الوظائف النحويّة والعلاقات التركيبيّة موضوع علم التركيب syntaxe . إلا أنّ هذا التعريف الذي نجده شائعا بين المعاجم ليس تعريفا جامعا مانعا لأنّه يميل إلى الاختصار والتبسيط والحقيقة أنّ تعريف علم الدلالة أعقد من أن يختزل في هذا التعريف لأسباب وإشكالات كثيرة يصطدم بها نذكر أهمّها في ما يلي:
- المعنى في اللسانيّات واللغة ليس حكرا على علم الدلالة بل نجده حاضرا في التركيب والصرف وفي اختصاصات أخرى مثل الفلسفة والمنطق والأنتربولوجيا... بل إن أحدث توجّه في علم الدلالة ( الدلالة العرفانيّة) مرتبط أشد الارتباط بما يحدث من مكتشفات تخصّ المعنى في علوم الأعصاب والبيولوجيا والحاسوبية والفلسفة... والسيميولوجيا...)
- الاهتمام بالمعنى قديم قدم الدراسة اللغويّة ولم يبدأ مع ظهور علم الدلالة. فنجد الهنود والعرب والإغريق اهتموّا به: ولكن ذلك الاهتمام كان مرتبطا بخلفيات وأطر مخصوصة: معاني الإعراب معاني الفلسفة...
- إذا كان كل علم يعرّف عادة بموضوعه ومناهجه ومفاهيمه ومصطلحاته وأهدافه فجميع هذه العناصر متغيّرة في علم الدلالة فهو علم متطوّر بتطوّر الدراسة اللسانيّة لا يكاد يستقرّ على منهج واحد ويتأثّر في كل فترة بالمناهج السائدة ولذلك تختلف النظرة إلى المعنى من فترة إلى أخرى.
ب – التمييز بين مستويات ثلاثة للدلالة:
 بالعودة إلى تعريفات علم الدلالة في المعاجم والموسوعات نعثر على تمييز بين ثلاثة مصطلحات أساسيّة. فقد جاء في معجم اللسانيّات لديبوا تمييز بين حدث الدلالة (la signification) وعلم الدلالة (la sémantique) والمعنى (le sens) إذ يقول: "رغم أنّ اللغة هي الموضع المفضّل لدراسة ظواهر الدلالة، إلا أنّ التوصّل إلى اعتبار علم الدلالة اختصاصا موضوعه المعنى كان متأخّرا".

هذا التعريف يقتضي التمييز بين ثلاثة مفاهيم:الدلالة كمعنى لغوي عامّ/الدلالة كاختصاص علميّ مترّع عن اللسانيّات/ المعنى كموضوع لهذا العلم.
- الدلالة حدثًا لغويّا signification : تقترن الدلالة قبل ارتباطها علم مخصوص بمعنى لغويّ قوامه دلالة اللفظ على المعنى. فالدلالة تعني حدث اقتران اللفظ بمعنى ما. فالألفاظ علامات على المعنى، ومن هنا كان اشتقاق مصطلح signification من الجذر sign الذي يعني العلامة أو الوسم الذي يدل على الشي (ما دلّ على الشيء). ومن هذا الاشتقاق يكون اللفظ الدال (signifiant) والمعنى المدلول (signifié) والفعل دلّ (signifier) الذي يرتبط بدلالة الكلمة أو التركيب أو الجملة على المعنى. وهذا المستوى اللغويّ العام من حدث الدلالة يوجد في كلّ اللغات وهو قديم قدم الظاهرة اللغويّة، ولا يمكننا أن نتصوّر ألفاظ اللغة خالية من حدث الدلالة. ومن الملاحظ أنّ الدلالة كظاهرة حدث يوجد في اللغة (دلالة الأسماء والأفعال والحروف والتراكيب الجمل) ويوجد خارج اللغة كذلك في مختلف الأنظمة الدلاليّة السيميائيّة (الإشارة/ الرمز /الأيقونة) فجميعها تقترن بحدث الدلالة فتكون دالا مرتبطا بمدلول:
- الدلالة اختصاصا علميّا semantics/sémantique. اختصاص نشا ضمن اللسانيّات، له موضوع ومنهج ومفاهيم وله بداية تحدّد تاريخيّا بنشأة هذا الاختصاص في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (بريال 1897). ومنه الصفة : دلالي/ sémantique/ semantic. لم ينشأ إلا من خلال تخليص المعنى من خلفياته الفلسفية ولثقافية وتحديده ضمن دراسة علميّة. لكن الاهتمام به مع البنيويين كان ثانويا فلم يكن مقصودا لذاته.
- المعنى sens وهو موضوع العلم والاهتمام به قديم لأنّه جزء مهم من الظاهرة اللسانيّة. ويقع المعنى في منطقة تقاطع بين اللسانيّات والكثير من الاختصاصات العلميّة الأخرى مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس والرياضيّات. وقد جاء في معجم ديبوا أنّ "لفظ المعنى واسع جدا لذلك لا تعتمد عليه النظريات اللسانية إلا بعد تحديد المقصود به تحديدا.

ويشير عبد المجديد جحفة في مقدّمة كتابه "مدخل إلى الدلالة الحديثة" إلى أنّ سؤال "ما المعنى؟" يقتضي إجابة مستندة إلى نظريّة متكاملة (نسق نظريّ)ولذلك تختلف النظريّات البنيويّة والتوليديّة والعرفانيّة في مقاربتها لظاهرة المعنى، وتتنوّع مناهجها المتأثّرة بالعلوم المجاورة لها.
   2- مراتب المعنى في الظاهرة اللغويّة:
أين يوجد المعنى؟ لا يقلّ هذاا السؤال إشكاليّة وعسرا عن السؤال السابق (ما هو المعنى). فليس بسيطا أن نحدّد مجالا بعينه يوجد فيه المعنى. ونلاحظ أنّ المعنى يرتبط بصفات، منها: ما يرتبط به المعنى من مصطلحات تشير إلى وجود مراتب متعددة للمعنى : معنى المفردة / معنى التركيب/ المعنى التداوليّ/ المعنى الصريح أو الضمني/ المعنى الحقيقي أو المجازي/ المعنى المقتضى أوالمستلزم، كلّ هذه الألقاب تعكس مراتب متعدّدة لظاهرة المعنى تحتاج إلى تنوّع في المقاربات وتعدّد في زوايا النظر سواء ضمن فروع علم الدلالة نفسه (علم الدلالة التركيبي/ المعجميّ..) أو بين مختلف الاختصاصات العلميّة المجاورة له (المنطق،الفلسفة، علم النفس...).
 أ- المعنى   المعجمي أو الصرفي/  المعنى التركيبي / المعنى التداولي:
يبدو تحديد موضع المعنى من القول أمرا بالغ التعقيد. فإذا كانت اللفظة الواحدة تحمل معنى معجميّا مفردا فهل يعني وجودها داخل جملة أن دلالة الجملة إذا تأمّلنا هذه الأقوال مثلا لوقفنا على عسر هذا التحديد:
(1) قرأتُ المكتوبَ (2) كلّ شيء يكون بالمكتوبِ (3) مكتوبُك فارغ؟
ثمّة إشكال حقيقيّ في تحديد المعنى المقصود بلفظ "مكتوب". فهل يقتصر المعنى على لفظ "مكتوب" ويكون بذلك حاملا لنفس المعنى في الأقوال الثلاثة؟ أم أنّ معناه يتحدّد حسب كلّ تركيب وبحسب علاقته السياقيّة بما يجاوره من ألفاظ فيكون في القول (1) رسالة وفي القول (2) القدَر وفي القول (3) الجيب الذي نضع فيه النقود. يمكن أن يمتدّ الإشكال في المثال (3) ليشمل المقام ففي حالة الحديث مع منجّم يصبح اللفظ "مكتوبك" دالا على القدر وعند الحديث مع الأمّ يكون المقصود هو الجيب. فهل يوجد المعنى في اللفظ الواحد أم في التركيب أم في ارتباط التركيب بالمقام؟
لهذا السبب يمكن التمييز بين فروع ثلاثة في علم الدلالة:
*علم الدلالة المعجميّ lexical semantics : دراسة المعنى المعجميّ للألفاظ المفردة ويمكن أن يوسم أيضا بالمعنى الصرفي بما أنّ الصرف دراسة للخصائص الاشتقاقية والتصريفيّة للكلمة الواحدة.وهو يتاول قضايا الترادف والتحليل السيمي والتضاد المشترك اللفظي والحقل المعجمي والحقل الدلالي...
*علم الدلالة التركيبيّ : يتعلّق بدراسة معاني الجمل. ويشير جون لاينز إلى وجود فرق بين التحليل النحوي والتحليل الدلالي للأقوال، فالنحو تركيز على العلاقات التركيبيّة: (مثلا في العربيّة: الفاعليّة المفعوليّة...) أمّا في علم الدلالة فيقع التركيز على المعاني التي تنتج عن ترابط الألفاظ تحديد المحتوى القضويّ للجملة وتعيين البنية الحملية للجملة.( ومن أمثلة التحليل الدلالي المتاثّر بالمنطق استخراج محتوى قضويّ واحد من هذه الأقوال (هل جاء زيد؟/ لم يأت زيد/ لقد جاء زيد) وهذا المحتوى القضويّ هو الدلالة الأساسيّة "مجيء زيد" تضاف إليها دلالة الاستفهام أو النفي أو التأكيد.
* التداوليّة pragmatics  : تعني التداوليّة دراسة معاني الأقوال في علاقتها بالمقام. فنفس الكلام قد يتغيّر معناه من مقام إلى آخر ويكتسب دلالات إضافيّة. ومن بين القضايا التي تطرحها التداوليّة الأعمال اللغويّة والقصد والاقتضاء والاستلزام والتأويل والاستدلال والإحالة والحواريّة وانسجام الخطاب والمعنى الحرفيّ والمعنى المجازيّ.
ب - المعنى الحقيقي أو المجازي :
تطرح قضايا المعنى ضمن ثنائيّة الحقيقة والمجاز في المباحث البلاغيّة. وعند استخدام الأقوال في سياقات التواصل. عادة ما يوسم المعنى بأنّه حرفيّ أو حقيقيّ أو يكون معنى مجازيّا. ويطرح السؤال حول معنى الكلمة انطلاقا من ربط دلالتها المعجميّة بسياق استخدامها في التركيب. فيكون اللفظ "أسد" مثلا موضوعا في الأصل من أجل ذلك الحيوان القويّ لكنّ المتكلّم يجوز به ذلك الموضع الأصليّ في المعجم ويستخدمه للدلالة على معنى الرجل الشجاع. يرتبط تفسير المجاز بنظريّات مختلفة: فقد عدّه أرسطو نقلا للاسم من مسمّاه الأصليّ (حيوان الأسد في المثال المذكور) إلى مسمّى آخر (الرجل الشجاع). والنقل هنا عمليّة لفظيّة يقع فيها استبدال اسم باسم لغاية الحلية والزينة اللفظيّة دون أن يتغيّر المعنى المقصود. ويرتبط المجاز أيضا بتصوّرات نظريّة مختلفة خاصّة في ما يتعلّق بالاستعارة باعتبارها أشهر وجوه المجاز.
ويطرح اللسانيّون ضمن دراستهم لعلاقة المعنى بالمجاز مسألة وجود الحقيقة (المعنى الحقيقي) أو ما يسمّى الدرجة الصفر من المجاز (le dégrée zéro). فهل يوجد كلام معناه كلّه على الحقيقة ويكون خاليا تماما من المجاز؟ يبدو الأمر مشكوكا فيه عند العرفانيين خصوصا، وفي هذا الخصوص أحدثت نظريّة الاستعارة التصوّريّة عند جورج لايكوف ومارك جونسون ثورة منهجيّة في مجال المجاز. وضمن كتابهما "الاستعارات التي نحيا بها"  حدّد اللسانيّان أهمّ سمات هذا التحوّل في النظر إلى المجاز ومنها:
- اعتبار المجاز حقيقة ذهنيّة تتعلّق بأسلوب تفكيرفالاستعارة تُبَنْيِنُ طريقة تفكيرنا لأنّنا نفكّر في شي (ميدان هدف) عن طريق شيء آخر (ميدان مصدر)؛ فذهننا قائم على نسق استعاريّ يستحضر المكان والزمان والجسد والطبيعة. ويظهر ذلك في استعارتنا اليوميّة: "أخلاقه عالية/ أخلاقه هابطة/ هزمه في النقاش/حجّة دامغة/ رأس القوم/) ... ولذلك لا يمكن التمييز بين اللغة اليوميّة ولغة الأدب فجميعها خاضعة لمنطق التفكير الاستعاريّ.
ج -  دلالة الاقتضاء (présupposition) ودلالة الاستلزام (implication):
عندما يتعلّق الأمر بدلالة الأقوال المستخدمة بين المتكلّمين، لا يكون المعنى مقتصرا على القول المنطوق في أحيان كثيرة، بل يتعدّاه إلى ما يرتبط بخلفيّات القائل واستتباعات القول من دلالات مجاورة. ومن بين هذه قضايا المستمدّة من مصطلحات المناطقة قضيّة المعنى المقتضى (sens présupposé) والمعنى المستلزم (sens impliqué) وهما مفهومان متقابلان لهما حضور في اللسانيّات وعلم الدلالة.
    يعرّف الاقتضاء في اللسانيّات عند ديكرو بأنّه جملة من المحتويات والمضامين الدلاليّة (معلومات) تقترن بالكلام المنطوق ويعلم بها المتكلّم مسبقا وتكون ضربا من الأرضيّة التي يبني عليها دلالة كلامه [معجم تحليل الخطاب ص454-455].  فمثلا لو قلت "أخي أكثر منّا مهارة في قيادة السيارة". فهذا القول يحمل في حدّ ذاته معنى قوامه "مهارة أخي في القيادة" لكنّ وراء هذا المعنى توجد معاني أخرى لم تُقل في الألفاظ لكنّها تفهم من دلالته وترتبط به على سبيل الاقتضاء ومنها: "عندي أخ في العائلة"/" يملك أخي سيّارة"/ "في العائلة من يستطيع القيادة"/"حدثت مقارنة بين أفراد العائلة حول مهارة القيادة"... وهذه المعلومات الدلاليّة ودورها في دلالة القول لا تتغيّر حتّى ولو اسفهمت أو نفيت القول السابق (ليس أخي أكثر منا مهارة في قيادة السيارة/هل أخي أكثر منّا مهارة في قيادة السيارة؟). وقد شكّل تحليل المعاني المقتضاة  وتأثيرها على دلالة القول وتدقيقها محور نقاش عميق عند علماء الدلالة والتداوليّة.  ومن أبرز ما يطرحه الاقتضاء من قضايا مدى اعتبار مقتضى الجملة المركّبة هو حصيلة مقتضى عناصرها وكذلك مدى اعتماد السامع على المقتضى في تأويل دلالة القول. ومدى وضوح ذلك الاقتضاء أو غموضه (اللبس) ومدى تأثير صدق أو كذب المعنى المقتضى على صدق القول المنطوق. وكذلك مسألة إبطال المقتضى. ولا يزال مبحث الاقتضاء في علاقته بالمعنى من شواغل المناطقة واللسانيّين والعرفانيين.
أمّا الاستلزام فمفهوم منطقيّ يعني ارتباط قضيّة أولى بقضيّة ثانية صدقا وكذبا. فحين تصدق القضيّة الأولى تصدق الثانية لزوما. أمّا في اللسانيات وعلم الدلالة فيتعلّق الأمر بمعلومات دلاليّة تنتج عن القول المنطوق اثناء الحوار فمثلا لو قلنا "لم يشتر أخي دراجة ناريّة جيّدة" فأي معنى يستلزمه هذا القول ويمكن أن يكون مشتركا بين المتكلم والسامع: (اشترى أخي دراجة ناريّة سيّئة/لم يشتر أخي أيّ دراجة/أخي لم يشتر بنفسه بل صديقه اشترى له درّاجة ناريّة جيّدة). وهكذا نرى أنّ المعنى المستلزم لا يكون دائما في سياق التخاطب واضحا. ومن بين ما يطرحه من قضايا كذلك : إذا كان المعنى المستلزم كاذبا أو صادقا فهل يؤثّر ذلك في صدق معنى القول أو كذبه؟
II- مناهج علم الدلالة وأطواره الرئيسيّة:
  1- المؤثّرات المنهجيّة في علم الدلالة :
عندما نتحدّث عن أطور علم الدلالة لا شكّ أنّنا نتحدّث عن خصائص تميّز كلّ طور وتدفع إلى رسم حدود زمانيّة بين مرحلة بعينها وما يسبقها أو يلحقها من مراحل. والسبب الرئيسيّ الذي يجعل علم الدلالة أو أيّ علم يتغيّر هو خضوعه للمؤثرات المنهجيّة والنظريّة التي تسود في عصره. ويبدو لنا علم الدلالة في هذا الخصوص خاضعا لضربين من المؤثّرات: مؤثّرات من خارج اللسانيّات تتعلّق بتأثير العلوم المختلفة في رسم ملامحه (الفلسفة، المنطق، السيمياء، الرياضيّات علم النفس). ومؤثّرات من داخل علم اللسانيّات وتتعلّق بتأثير النظريّات التي تهيمن على جهود اللسانيّين في عصر بعينه وتصبح نزعة عامّة تؤثّر في اتّجاهات دراسة المعنى (النزعة التاريخيّة، البنيويّة، التوليديّة، العرفانيّة، التداوليّة)
أ* تأثير مختلف العلوم في مناهج علم الدلالة:
لا يوجد علم بمنأى عن تأثير العلوم المجاورة له. لكن درجة التأثير وثمرة ذلك التأثير يمكن أن تختلف من علم إلى آخر. ومن الملاحظ أنّ علم الدلالة تأثّر في مفاهيمه ومناهجه ومصطلحاته بعلوم مختلفة وأهمّها الفلسفة والمنطق وعلم النفس العرفانيّ وعلم الأصوات والرياضيّات. وتبدو هذه المؤثّرات مركّبة لا يمكن حصرها وتحديدها بدقّة. ويمكن على سبيل المثال أن نذكر بعض هذه المؤثّرات من خلال الصياغة الصوريّة أو الشكلانيّة للمعنى ، تاثّر التحليل السيميّ بمنوال الشروط الضروريّة والكافية للصدق في علم المنطق وبتحليل السمات التمييزيّة في علم الأصوات. وعموما يمكن أن نستدلّ ببعض النماذج من تأثير العلوم المجاورة في علم الدلالة:
* علم الدلالة والسيميائيّة: اللسانيّات بما في ذلك علم الدلالة جزء من علم أشمل بشّر به دي سوسير وهو علم السيميائيّة. وضمن هذا الاعتبار تكون العلامة اللغويّة (الدليل اللغويّ le signe linguistique) جزءا من دراسة الأنظمة السيميائيّة في الطبيعة وتخضع لتأثير بما يسود فيها من مناهج وتصوّرات. لكن من الشائع أنّ السيميائيّة ولدت أيضا على يد بيرس الذي سمّاها السميوطيقا واعتبر الإنسان يفكّر من خلال العلامات. وتبدو سيميوطيقا بيرس ذات طابع نظريّ وذات طابع فلسفيّ يعود إلى أعمال كانط وهيقل وكانت مؤثّرة في البحوث التداوليّة. ومن مظاهر تاثيرها في البحوث اللغويّة التمييز بين العلامة-الإشارة والعلامة-الرمز والعلامة-الأيقونة. ولهذا السبب يخضع تناول موضوع العلامة اللغويّة وما يرتبط بها من دلالات إلى تأثير أهمّ أعمال السيميائيين التي جعلت الحدود بين علم الدلالة والسيميائية والفلسفة والنقد الأدبيّ حدودا مفتوحة. ويشير أمبرتو إيكو إلى أنّ السيميائيّة تثير الكثير من القضايا الفلسفيّة في تناولها للدليل اللغويّ منها: العلاقة بين الدليل في بعده الذهني والفكري وصور تحقّقه في الواقع.  ومنها كيفيّة إنتاج الإنسان على مرّ العصور للدلائل واعتماد تفكير سيميائيّ ومحاولاته في تعريف الدليل. [انظر مقاله المترجم قضايا الدليل الفلسفيّة: مجلّة علامات العدد28، 2008][2].
* تأثّر علم الدلالة بالعلوم الإنسانيّة:  خضع علم الدلالة لتأثير العديد من العلوم الإنسانيّة. ولم يكن هذا التأثير على نفس القدر من الأثر. فمثلا كان تأثير علم الصوتيّات واضحا من خلال استلهام التحليل السيميّ لمكوّنات المدلول من التحليل الصوتميّ للسمات التمييزيّة. كما أنّ تأثير علم النفس السلوكي كان واضحا في البنيويين التوزيعيين الذي اعتبروا المعنى خارج اهتماماتهم. في المقابل كان تأثير علم النفس العرفاني مهمّا في علم الدلالة المعجميّ من خلال اعتماد العرفانيّين على نظريّة الطراز التي أخرجت الدلالة المعجميّة من تأثير المنطق الأرسطي القائم على ثنائيّة "الصدق/الكذب" إلى تصوّر جديد للمقولات في الذهن قائم على مفهوم الطراز أو النموذج الأكثر تمثيلا للأشياء.
* تأثّر علم الدلالة بالصياغة الشكليّة المجرّدة في علم المنطق والرياضيّات:
 خضع تصوّر علماء الدلالة لمكوّنات الدليل اللغوي ولتصوّر دلالة الجملة لمؤثّرات منطقيّة ورياضيّة سهمت في اعتماد اللسانيّن على صياغة رمزيّة للقواعد الدلاليّة. واستطاع نحو مونتاغ ذي النزعة المنطقيّة والرياضيّة أن يؤثّر في النحو التوليديّ من خلال اعتماده على الصياغة الرياضيّة المجرّدة للقواعد النحويّة. وقد بلغ هذا التأثير إلى مداه من خلال تأثّر علم الدلالة بهذا الطابع الصوريّ في تحليل دلالات الجمل واعتماد القواعد الرمزيّة والمفاهيم المنطقيّة. ومن بين المفاهيم المنطقيّة المؤثّرة منوال الشروط الضرورية والكافية في التعريف ومفهوم القضيّة المنطقيّة القائمة على مفهوم الإسناد المنطقيّ (محمول+ موضوع..).
* تأثّر علم الدلالة بالفلسفة:
يبدو تأثير الفلسفة في أعمال علماء الدلالة عميقا. وأكثر الميادين تأثيرا هي بلا شكّ مبحث التداوليّة. وإذا كانت التداوليّة تقسّم إلى تداوليّة مدمجة (جزء من التفكير اللسانيّ) وجذريّة (جزء من التفكير الفلسفيّ)، فإنّ هناك تأثيرا واضحا لأعمال فلاسفة التداوليّة في علم الدلالة. وتشير تعريفات علم الدلالة إلى الصلات الوطيدة التي تجمعه بعلم الفلسفة، فقد ورد موسوعة اللسانيّات:
"علم الدلالة هو دراسة المعنى اللغويّ وهو المجال  الأقرب في اللسانيات إلى فلسفة اللغة. والاختلاف الأساسي بين مقاربة الفلاسفة ومقاربة اللسانيين هو تركيز اللساني على الطريقة التي يؤدّى بها المعنى في اللغة في حين يكون الفيلسوف مهتما أكثر بطبيعة المعنى في حدّ ذاته. ومهتمّا تحديدا بالصلات الموجودة بين ما هو لغوي وما هو غير لغويّ."
موسوعة اللسانيات ص 455-465/

The Linguistics Encyclopedia, Kirsten Malmkjaer, Routledge, 2sd Edit, London New York, 2002.
ومن أمثلة هذا التقارب أعمال الفيلسوف والمنطقي والرياضيّ غوتلوب فريغه Gottlob Frege (1848-1925) الذي ميّز بين المعنى والمرجع في نظام اللغة. فقد يكون المرجع مثلا واحدا في الواقع وتكون له في نفس الوقت معاني مختلفة في نظام اللغة. كما يظهر ذلك في مساهمةّ أوستين وسورل وهما من فلاسفة اللغة فقد كانا مؤسّسين لنظريّة الأعمال اللغويّة التي تعدذ من أهمّ مواضيع علم الدلالة التداوليّ. ومن بين المشاغل الفلسفيّة المشتركة بين علم الدلالة والفلسفة مسألة الذاتيّة التي تحضر في الخطاب عبر علاقة المتكلّم بدلالة ما ينطقه من أقوال. وصلة دلالة القول بـ"الآخر" باعتباره يؤثّر في دلالة الخطاب فهما وتأويلا ومقصدا.
* علم الدلالة والعلوم العرفانيّة: يمثّل علم الدلالة العرفانيّ أبرز اختصاص في اللسانيات العرفانيّة سواء تعلذق بالمعجم أو بالتركيب. واللسانيّات العرفانيّة جزء من منظومة علوم متفاعلة وأهمّها علوم الأعصاب والبيولوجيا وعلم النفس العرفانيذ والحاسوبيّة. ولذلك يقهع علم الدلالة في مختلف نظريّاته العرفانيّة تحت تأثير هذه العلوم ومناهجها الطبيعيّة. ومن أبرز مظاهر هذا التأثير انتقال مفاهيم علم النفس العرفانيّ إلى نظريّات لم الدلالة ومنها الطراز والخطاطة والبنية التصوذريّة.
ب - أهمّ المقاربات المنهجيّة للمعنى:
*المنهج البنيويّ: تعود خصائص المنهج البنيويّ  إلى مبادئ دي سوسير في دراسة اللغة وأهمّها: اعتبار اللغة شكلا لا مادّة. واعتماد الدراسة الآنيّة والاهتمام بثنائية الدال والمدلول. ويبرز تأثير هذا المنهج في اعتماد التحليل المكوّني لخصائص المدلول. وفي التركيز على العلاقات الدلاليّة بصرف النظر عن تطوّر المعنى عبر الزمان. ورغم أنّ المعنى لم يكن المشغل الأوّل للبنيويين الأروبيّيين إلا أنّهم تأثّروا بهذه النقلة المنهجيّة. يقول ديبوا في معرضه تعريفه للمعنى :
«اللسانيّات الحديثة لم تستطع أن تتخذ وضعا علميّا إلا بعد أن استبعدت في البداية الاعتبارات الفلسفيّة والثقافيّة التي كانت ترتبط تقليديّا بدراسة الكلام. فاللغة ينبغي أن "تدرس في حدّ ذاتها ولذاتها". أي باعتبارها شكلا قبل كلّ شيء. والأعمال الأولى للبنيويين الأروبيّين (جاكبصون، تروبتسكوي، مارتنيه) لم تهتمّ بالمعنى إلا لغايات تِقنيّة بحتة. من ذلك أنّ تحديد الوحدات اللغويّة في النظام (صواتم، صرافم) لا يستند إلى المعنى إلا لغاية تحديد ما يظهر من تقابلات. ويبدو هذا الموقف أكثر تطرّفا عند البنيويين الأمريكيّين (وخاصّة هاريس)  حيث يكون تحديد الوحدات [اللغويّة] وتصنيفها نتيجة لتحليل مدوّنة [من الأقوال] عن طريق تطبيق أدوات شكليّة تقصي المعنى تماما. والأمر نفسه يتكرّر مع المبادئ المؤسّسة للنحو التوليديّ والتي تتميّز بإقصاء ممنهج للمعنى، مستخدمة في وصفه عبارة "متعدّد الاستعمالات" التي يراد بها في حقيقة الأمر "كلّ الجوانب اللغويّة التي لا نعرفها جيّدا"».
ويبرز تأثير المنهج البنيويّ في مفاهيم كثيرة  منها: المدلول والمعنم والمعينم والسمة الدلاليّة والبنية الدلالية للجملة.
* المنهج الصوريّ:
يمثّل النحو التوليديّ نقلة نوعيّة في دراسة اللغة وسببا مباشرا في تحوّل الاهتمام من الشكل إلى المعنى بسبب ما أثاره من نقاش حول المكوّن الدلاليّ. ومن بين التحوّلات التي أحدثها الاعتماد على الطابع الصوري المجرّد المستمدّ من لغة المنطق والرياضيّات والحاسوبيّة. ولذلك كان التوليديّون يميلون إلى الوصف الشكلي للمعنى وساعدهم في ذلك التأثّر الكبير بأعمال المناطقة وعلماء الرياضيّات ومنهم مونتاغ. ولذلك برز ما يعرف بالدلالة الصوريّة التي تعتمد التمثيل شبه الرياضي لخصائص المعنى.
وينبغي الانتباه إلى التمثيل الصوري المجرّد للمعنى في اللسنيّات يعود إلى انفتاح علم الدلالة على جهود المناطقة والفلاسفة والرياضيّين وإلى تركيزهم على الجانب الشكلي من المعنى. وهذا ما قادهم إلى استثمار المفاهيم المنطقيّة ومنها حساب القضايا وقيم الصدق والكذب في حساب القضايا ومفاهيم الشرط والنفي والربط في المنطق. ومن بين النظريّات الدلاليّة التي تعكس هذا المنهج الصوريّ : نظريّة x- بار في تفسير دلالة المعجم ونظريّة الأدوار الدلاليّة.
* المنهج التداوليّ:
تقوم التداوليّة على فكرة ارتباط اللغة بالاستعمال واستحضار تأثير المقام والمتكلّم والمخاطب في دلالات القول. ولذلك يمكن اعتبار هذه النزعة منهجيّة. خاصّة أنّها تستعين بالكثير من مفاهيم فلسفة اللغة(نظريّة الاعمال اللغويّة) والمفاهيم السيميائيّة (العلامة، المرجع). ويبرز ذلك المنهج أيضا في تطبيقه في النقد الأدبيّ إذ يعتمد كثير من النقاد على مفاهيم الاقتضاء والعمل اللغويّ والخطاب والذاتيّة في تحليل الخطاب الأدبيّ.
* المنهج التصوّريّ/الطبيعيّ:
يركّز العرفانيّون على دراسة المعنى ويعتبرون الذهن مركز العرفان فيه تحدث جميع العمليّات التصوّريّة.وقد استفادوا من مناهج العلوم الطبيعيّة كثيرا ووظّفوا مفاهيمها في تفسير المعنى. ولذلك يمكن اعتبار طريقتهم ذات طابع تصوّريّ لأنها تركّز على الخطاطة والبنية التصوّريّة وخصائص المقولات الذهنيّة. ويمكن اعتبار منهجهم طبيعيّا لأنه يستفيدون من مفاهيم البيولوجيا وعلوم الأعصاب ومن طريقتهم في دراسة خصائص الجهاز العصبيّ.  وتبرز بعض مظاهرهذه النزعة المنهجيّة في نظريّة الاستعارة التصوّريّة لمارك جونسون وجورج لايكوف. حيث يكون المعنى  في الذهن عندهم مستمدّ من تجربة الجسد في الطبيعة. فيكون كلامنا اليوميّ استعاريّ يحيل على أوضاع الجسد من علوّ وانخفاض وحركة. (أخلاق عالية/سافلة/ تكاتف/ تعاضد..)
  2- الأطوار الرئيسيّة لعلم الدلالة:
بناء على تلك المؤثّرات المنهجيّة من خارج اللسانيّات ومن داخلها يمكن أن نرصد أهمّ السمات في المسار التطوّريّ لعلم الدلالة. وهو في اعتقادنا مسار تتطوّر حركته الإبستيمولوجيّة في اتجاهين متكاملين:
* اتّجاه عموديّ: ترتقي فيه المقاربات للمعنى من عصر إلى عصر ومن نظرية أو مدرسة إلى نظرية أو مدرسة جديدة فتستبقي بعض المكاسب وتجدّد أخرى. فمن النظريّات البنيوية إلى النظريات التوليدية وصولا إلى المقاربات العرفانيّة.
* اتّجاه أفقيّ: تنفتح فيه اللسانيّات في نفس العصر على ما يحيط بها من علوم ومؤثّرات إبستيمولوجيّة. فلا يكون فيه علم الدلالة علما منغلقا على نفسه بل منفتحا على سائر الاختصاصات والمعارف العلميّة (الصوتياّت/ الأنتروبولوجيا/ علم النفس / المنطق/ الرياضيّات/ الفلسفة/ العلوم العرفانيّة (البيولوجيا، علوم الأعصاب، الحاسوبيّة، علم النفس العرفانيّ...).
لذلك يبدو مسار تطوّر علم الدلالة مسارا لولبيّا فلا يتقدّم عموديّا إلا إذا ازداد انفتاحا على محيطه المعرفيّ أفقيّا. وتتخلّل هذه المقاربات والمؤثّرات المنهجيّة جميع فروع علم الدلالة بتفاوت (علم الدلالة المعجميّ، علم الدلالة التركيبيّ، التداوليّة). ويكون التفاوت من عصر إلى آخر من خلال اختلاف درجة تأثير النظريّة أو المؤثّر المنهجيّ في فرع محدّد لعلم الدلالة أو في درجة تركيز جهود علماء الدلالة على فرع بعينه. وتبدو لنا التقسيمات المقترحة لأطوار علم الدلالة  نسبيّة وهي اقرب إلى التقسيم العام اي يحافظ على الملامح الكبرى ويغفل ما بين المدارس والأطوار من استرسال وتواصل. وهي أطوار لا تعكس في النهاية حدودا زمانيّة أو نظريّة صارمة فكثير من المفاهيم تتكرّر في أكثر من مدرسة وفي أكثر من طور (البنية، الدلالة الشكليّة، التحليل المكوّنيّ...). ويمكن أن نحصي بناء على هذه النظرة التقريبيّة أربعة أطوار رئيسيّة:
أ - الطور التاريخيّ:  ظهرت بوادر هذا العلم في نهاية القرن التاسع عشر. وهذه المرحلة  تمثّل فترة ازدهار اللسانيّات التاريخيّة والنحو المقارن. ومن الطبيعيّ أن يكون التركيز منصبّا في هذه المرحلة على اعتبار الجانب الصوتيّ والجانب التطوّريّ في اللغة هو الجانب الأهمّ في اللغة والألسن لذلك طغت البحوث التاريخيّة في تطوّر الكلمات والمقارنة بين الألسن دون أن يكون هناك أيّ اهتمام جدّي بجوانب الدلالة على المعنى. ولهذا السبب اعتبر المعنى من اهتمامات الفلسفة والمنطق فهو خارج اهتمام اللسانيّ، وقد نجد أحيانا اهتماما لغويّا بالمعنى لكن تغلب عليه تلك النظرة الفلسفيّة التي تعتبر المعنى من مشمولات الفكر فتربط اللغة بمقولات فكريّة فلسفيّة.
في هذا الإطار التاريخيّ، برزت أولى  محاولات تأسيس هذا العلم، منها أعمال مولر سنة 1862و1887 حيث حاول الربط بين الكلام والفكر واعتبرهما متطابقين. ومن هذه المحاولات ما برز خصوصا على يد اللسانيّ الفرنسيّ ميشال بريال ( Michel Bréal ) الذي كان أوّل من استخدم مصطلح علم الدلالة   sémantique  سنة 1897 من خلال مؤلّفه مقالة في علم الدلالة: نَحْوَ علم الدلالات ( Essai de sémantique : science des significationsوقد لاقى هذا المصطلح رواجا وقبولا بين اللسانيين. لقد حاول بريال دراسة تطوّر معاني الكلمات في اللغات الهنديّة واليونانيّة واللاتنيّة فكان أوّل من يدرس تطوّر معاني الكلمات بدل دراسة تطوّر أصواتها. وقد كان اهتمامه يدلّ على محاولة الاعتناء بتطوّر الخصائص الدلاليّة للمفردة في اللغة وهو ما يجعله مقابلا لما كان يسود في التقاليد اللسانيّة الأروبيّة في عصره من اهتمام مركّز على تطوّر الجوانب الصوتيّة ضمن ما يعرف بالنحو المقارن والنحو التاريخيّ. لكنّ ما أثير من قضايا تتّصل بالمعنى بقي محتشما وكان في غالبه مرتبطا باعتبارات فلسفيّة وثقافيّة، ولم يتخلّص من تلك التقاليد الراسخة في البحث اللغويّ والتي تعتبر المعنى مجاله الفلسفة لا البحث اللسانيّ.
ب- الطور البنيويّ: نميّز فيه بين البنيويّة الأروبيّة والبنيويّة الأمريكيّة
* مرحلة البنيويّة الأروبيّة:
لقد كان لظهور آراء دي سوسير سنة 1916 التأثير البالغ في توجيه اللسانيّات نحو الدراسة الآنيّة البنيويّة. وقد طرح دي سوسّير جملة من المبادئ ذات الصلة بالمعنى، سيكون لها أثر في توجيه علم الدلالة أهمّها:
ـ اعتبار علم اللسانيّات مندرجا ضمن علم أعمّ هو علم الدلائل أو العلامات أو ما يسمّى بالسيميولوجيا. فهو علم واسع يضمّ أنظمة التواصل كاللغة وإشارات المرور وأنظمة التواصل عند الحيوان.
ـ اعتبار البنية مجموعة عناصر شكليّة لها قيمة تمييزيّة في التعبير عن المعنى. فتكون قيمة الحرف (ر) في تمييز معنيين في كلمتين مثلا (أمر) و(مرء) وهو بذلك يقدم الشكل على المعنى.
ـ وجود علاقة اعتباطيّة بين الدال والمدلول: فقد درس دي سوسير العلامة (أو الدليل) واعتبره مكوّنا من دال ومدلول وهو بذلك يجعل الاهتمام منصبّا على الطريقة التي يرتبط فيها شكل العبارة بمعناها.
لقد كان لهذه الآراء وغيرها تأثير في الدراسة البنيويّة لنظام اللغة لكنّ المعنى بقي هامشيّا ويدلّ على ذلك أنّ المدارس البنيويّة التي اتبعت آراء دي سوسير وتوسعت في مبادئه اهتمّت بالجانب الشكلي من المفردات مثل الصوتم ولم تعط للمدلول اهتماما كبيرا. ونجد الاهتمام بالتحليل البنيوي للمدلول متأخرا في الستينات حيث اقتصر الاهتمام على دراسة الكلمة المفردة في المعجم من جهة تحليل سماتها الدلاليّة وفي ذلك قياس على تحليل السمات التمييزية للصواتم في علم الصوتيّات. ثمّ من خلال المقارنة بين كلمات متشابهة في المعنى نعثر على فروق دلاليّة تميّز معنى كلّ كلمة.
* مرحلة البنيويّة الأمريكيّة:
(المدرسة البنيويّة الأنتروبولوجيّة (إدوارد سابير1923) /المدرسة التوزيعيّة (بلومفيلد 1933)/ المدرسة التحويليّة (هاريس)
اهتمّت اللسانيّات البنيويّة الأمريكية في العشرينات إلى أواخر الخمسينات بقضايا الجملة والتركيب وتجاوزت مستوى الكلمة الواحدة. واشتهرت في البداية المدرسة البنيوية الأنتروبولوجيّة لصاحبها إدوارد سابير الذي اهتمّ كثيرا باللغات الهنديّة وخصائصها الثقافيّة وقادت أعماله إلى اكتشاف الصوتم (phonème). أمّا بخصوص المعنى فقد قادت جهوده إلى التأكيد على علاقة اللغة بالفكر فاعتبر أنّ اللغة تعكس مقولات الفكر لأنّنا نفكّر باللغة وتعكس اللغة بذلك ثقافتنا وطريقتنا في التفكير فكثرة أسماء الجمال عند العرب دون الثلوج أو كثرة أسماء الثلوج دون الجمال عند الإسكيمو إنّما هي دليل على أنّ اللغة تعكس ثقافتنا وطريقتنا في التفكير وهوما يُسمّى بمبدأ سابير-وورف.
 في المقابل ركّزت المدرسة التوزيعيّة عند بلوممفيلد وأتباعه على الجانب الشكلي للأقوال وتجاوزت تقطيع الكلمة إلى صواتم إلى مستوى تقطيع الجملة إلى صرافم وكان الشغل الشاغل للتوزيعيين بعد الثلاثينات هو تحليل القول إلى مكوّناته المباشرة وطريقة توزيع الكلمات في التركيب. وقد ذكر أحد أبرز أعلام هذه النزعة اللسانيّة ومؤسّس المدرسة التوزيعيّة بلومفيلد أنّ دراسة المعنى هي نقطة الأضعف  الدراسة اللسانيّة ولا يمكن حصره . ولذلك لم تعط هذه المدرسة  للمعنى أهميّة كبرى وسرعان ما تخلّت عنه واعتبرته غير قابل للحصر متأثرة بذلك بالنزعة اللاذهنية التي تعادي كل ما هو فكري وذهني ومتصل بالحدس والفهم ومتأثرة بالمدرسة السلوكية في علم النفس التي ترى ضرورة الاهتمام فقط بما يظهر من السلوك اللغوي (المثير والاستجابة).
ج- الطور التوليديّ:
من خلال ما أظهره شومسكي اللساني الأمريكيّ من نقد موجه للتوزيعية والبنيوية الأمريكية، اقترح نظرية جديدة كان لها تأثير مهم إلى حدود التسعينات : وهي تعرف بالنحو التوليدي وقد أثار نقاشا واسعا بين اللسانيين بين مؤيد وناقد ومتوسع ومعارض فكانت كل تلك الجهود تمثل اللسانيات التوليدية.
  صورة النحو التوليديّ :                                                       المكوّن الصوتميّ
             الأساس ←البنية العميقة ← التحويل← البنية السطحيّة 
                                                                                     المكوّن المنطقيّ

 من الملاحظ أن المعنى كان هو محور هذه النقاشات على أكثر من صعيد:
مرحلة كتاب البنى النحويّة 1957
Structures syntaxiques
تأسيس النحو التوليدي
دون إعطاء دور للمعنى
ـ نظريّة في نفسير كيفيّة تولّد الجملة في الذهن
ـ إغفال مكوّن الدلالة في النحو التوليدي
ـ نقد كبير من كاتز وفودور وبوسطل لإغفاله للمعنى.
- اقتراح الفرضيّة القويّة (كاتز وبسطل) التي تعني وجود المكوّن الدلالي في البنية العميقة قبل التحويل.
النظريّة النموذجيّة
 la théorie standard
 1965 -1970
إقحام المعنى بشكل ثانويّ استجابة للنقاش
ـ إقحام الدلالة في النحو ضمن البنية العميقة.
ـ  الدلالة هدفها تأويل تركيب الجملة الشكليّ (دور تأويلي: الدلالة تؤّول الشكل أي تكسو الشكل بالمعنى بعد اكتماله ونشأته) فهي مكوّن ثانويّ في تركيبة النحو النحو.
ـ خرج عن شومسكي جماعة الدلالة التوليديّة (لايكوف غروبر غروس)الذين يعتبرون الدلالة هي الأساس الرئيسي لتوليد الجملةوليس التركيب.
النظريّة النموذجيّة الموسّعة
1977
تغيير في دور المعنى لكنّه بقي ثانويّا
ـ أصبح موقع الدلالة في البنية السطحيّة
ـ بقيت الدلالة مكوّنا ثانويّا هدفه تأويل الجمل بعد اكتمالها نحويّا (شكليّا).
نظريّة العمل والربط 1981
نظريّات فرعيّة ودور ثانويّ للمعنى
ـ البحث عن نموذج نظري فيه نظريّات فرعيّة
ـ السعي لتاسيس نحو كونيّ يفسّر جميع اللغات
ـ بقيت الدلالة مكوّنا تأويليّا.
البرنامج الأدنويّ 1995
(توجّه عرفانيّ)
انخراط في اللسانيّات العرفانيّة التي تعطي للمعنى الأهميّة الأبرز
ـ انخراط شومسكي في اللسانيّات العرفانيّة
ـ يمثّل اتّجاه شومسكي وريث التوليديّة وأحد فرعي اللسانيّات العرفانيّة.
ـ كثير من اللسانيّين كانوا توليديّين فصاروا عرفانيين
أنشأ شومسكي نحوه على افتراض ما يحصل في الذهن من طريقة في إنتاج الجمل  الصحيحة نحويا ولم يعط للمعنى قيمة فنقده اللسانيون في ذلك. وقد أعاد شومسكي النظر في نظريته بناء على ملاحظات كاتز وفودور وبسطل وأعطى للمعنى دورا استجابة لهذا النقاش لكنه بقي دورا ثانويا وفي كل مرة يجدّد النقاش حول المكوّن الدلالي يعود شومسكي إلى تطوير نظريته دون أن يعطي للمعنى مكانة رئيسية فالجانب الشكلي للنحو عنده هو الأساس والدلالة هي مكوّن ثانويّ دوره تأويل الشكل. كلّ ذلك أدّى ذلك إلى بروز تيار مضاد لنظرية شومسكي يعتبر المعنى والدلالة هما الأساس المتين لتوليد الجمل وهو ما يعرف بالدلالة التوليدية (جورج لايكوف/ غروبر).
د- الطور العرفانيّ:
النزعة التي تسيطر اليوم على البحوث اللسانيّة: اللسانيّات العرفانيّة. ومن همّ فروعها على الإطلاق الدلالة العرفانيّة وفيها نجد الكثير من النظريّات الجديدة التي تفسّر المعنى وكيفيّة انتظامه بين اللغة والذهن.
ـ لقد قاد النقاش الذي أثارته النظريّة التوليديّة سابقا إلى عودة الاهتمام بالمعنى وقد خرج الكثير من التوليديين عن هذه النظريّة ليؤسسّوا نظريّات خاصّة بهم تهتمّ بالمعنى منهم مثلا فيلمور وجكندوف.
ـ استفادت اللسانيّات العرفانيّة من التطوّر المذهل في العلوم الصحيحة التي تدرس الدماغ وما يحصل في الذهن من كيفيّة تقبّل المعنى وفهمه وإنتاجه ولذلك صارت اللسانيّات تهتمّ اليوم أساسا بالجوانب المعنويّة في اللغويّة وهذا ما يفسّر بروز اختصاص له مكانة كبرى في اللسانيّات وهو الدلالة العرفانيّة.
ـ من أبرز النظريّات المشهورة في ميدان الدلالة العرفانيّة: نظريّة الاستعارة العرفانيّة عند لايكوف وجونسون حيث تتناول النظريّة ارتباط الاستعارة بطريقة تفكيرنا فنحن نفكّر ونفهم بالاستعارات (مثال: أخلاق رفيعة/منحطّة: نفهم الأخلاق باستعارة الاتجاه: أعلى /تحت) ونظريّة الطراز prototype لجورج كلايبار وهي تهتمّ بكيفيّة فهم دلالة المفردات في المعجم ضمن صور ذهنيّة كبرى. ونظريّة الأطرframes  لفيلمور وهي تهتمّ بالمفردات المعجميّة وكيفيّة تنظيم معانيها في الذهن. وغيرها كثير من النظرّيات العرفانيّة التي تهيمن على المشهد اللسانيّ اليوم وتتكاثر فيها البحوث يوما بعد يوم.




[1] - جاء في مدخل "فلسفة العلم" في معجم الفلسفة:  "دراسة العلم في أعمّ معانيها تتناول طبيعته وأهدافه ومناهجه وأدواته وأقسامه ومجاله وعلاقاته بالمواضيع الأخرى." :  « The study of science in the broadest sense, its nature, aims, methods, tools, parts, range, and relation to other subjects. »  A.R.Lacey, A Dictionary of Philosophy, Routledge, Third edition 1996, London, p 306.
[2]  http://saidbengrad.free.fr/al/      يمكن تحميل المقال من الموقع:

هناك 5 تعليقات:

  1. مشكور اخي الكريم على هذه الاضاءات والملاحظات القيمة

    ردحذف
  2. شكرا لمن قدّم هذا التوضيح و الاضاءة لعلم الدلالة

    ردحذف
  3. أحسنت النشر وبارك الله فيك أخي الكريم

    ردحذف

قائمة المصادر والمراجع المعتمدة في درس  علوم دلاليّة تجدون روابط التحميل أسفل كلّ مرجع متاح وسيتم تحيين بقية الروابط كلما توفّرت 1 - ...