العودة إلى الصفحة الرئيسية لمنصة عين عربيّة

الأربعاء، 4 مايو 2016

الدرس الثالث: قضايا المعنى في الدلالة التركيبيّة

اضغط هنا لتحميل الدرس:  الدرس الثالث الدلالة التركيبيّة


                                   قضايا المعنى في الدلالة التركيبيّة  
تعني الدلالة التركيبيّة المعنى الذي يحدثه التركيب، فإذا كان للمفردة معنى في المعجم فإنّ دخولها في علاقات سياقيّة مع اقي الكلمات في الجملة ينتج معاني نحويّة تنضاف إلى الدلالة المعجميّة. فمثلا لو سلّمنا أنّ كلمة "عين" لها جملة من السمات الدلاليّة المعجميّة فإنّ دخولها في تركيبين نحويّين مختلفين مثل (أصابته عينٌ/فرك عينَه) يضيف إليها دلالة نحويّة غير معجميّة مثل القائم بالحدث أومتقبّله. وتهتمّ الدلالة التركيبيّة (sémantique synataxique) بالعلاقات الدلاليّة التي تنشأ بين العلامات اللسانيّة في الجملة. وهي تطرح قضايا كثيرة تتّصل بالمعنى عموما وكيفيّة انتظامه داخل التركيب. ومن أهمّ الاسئلة التي تطرحها:
- ما هي علاقة الدلالة النحويّة بالدلالة المعجميّة؟
- هل تمثّل دلالة الجملة مجموع دلالات الكلمات التي تشتمل عليها؟
- ما هي علاقة الدلالة بالتركيب النحوي؟ وأيّهما يتبع الآخر؟
- ما هي الأسس المنهجيّة التي يمكن أن نقيم عليها تصوّرنا للدلالة التركيبيّة؟
- ما هي أبرز تأثيرات العلوم الصحيحة والإنسانية في تصوّر الدلالة التركيبيّة للجملة؟

نركّز في درسنا على أهمّ المقاربات النظريّة التي تناولت المعنى التركيبيّ المتحقق في الجملة ويهدف درسنا إلى التعرّف على مختلف المنهجيّاتوالخلفيّات الفلسفية وراء كلّ مقاربة. لكنّنا لا نأخذ بعين الاعتبار تأثير المقام والسياق في دلالة التركيب فهي من مشمولات الدلالة التداوليّة.
I- أهمّ المقاربات المنهجيّة والمؤثّرات الفلسفيّة في نظريّات علم الدلالة التركيبيّ:
1-مناهج  طرح قضايا الدلالة التركيبيّة :
كيف تتحقّق دلالة التركيب؟ هل هي حصيلة المعاني المعجميّة للكلمات أم هي دلالة جديدة تنضاف إلى تلك المعاني؟ 
أين تتحقّق تلك الدلالة التركيبيّة؟ هل تتحقّق في نظام اللغة؟ أم في الجانب الذهني/النفسي للمتكلمين؟  أم هي ثمرة تفاعل المتكلم مع محيطه الطبيعيّ؟
كيف يمكن أن نضبط هذه الدلالة؟ عن طريق مفهوم القضيّة المنطقيّة؟ عن طريق الافتراض؟ أم عن طريق مفاهيم نفسية وعصبيّة؟
يمكن أنّ نميّز جملة من المقاربات المنهجيّة في حاولت الغجابة عن هذه الأسئلة المتعلقة بالدلالة التركيبيّة:
- الطرح الشكليّ البنيويّ: المعنى يوجد في نظام اللغة. فهل يمكن أن يكون المعنى التركيبي بنية مترابطة مثل الشكل؟
اعتبار دلالة الجملة بنية قابلة للتحديد وهي توجد في نظام اللغة. وهذه المقاربة توجد عند البنيويّين ومن أبرزهم تنيار.
- الطرح الافتراضيّ: الدلالة لا يمكن أن نعاينها مثل اللفظ. فهل يمكن اعتبار المعنى في الذهن بنية افتراضيّة ينشئها اللسانيّ تخييلا لغاية التفسير؟
اعتبار الدلالة التركيبيّة بنية شكليّة افتراضيّة فيقوم اللسانيّ بافتراض بنية شكليّة تمثّل المعنى ولذلك يمكن صياغتها صياغة رياضيّة رمزيّة. وونجد هذا الطرح في نحو منتاغ واللسانيّات التوليديّة. (البنية العميقة، الفضاءات الذهنيّة...)
- الطرح المنطقيّ: دلالة الجملة تساوي مفهوم القضيّة المنطقيّة. فهل يمكن تمثيل هذه البنية الدلاليّة بصيغة رمزية مجرّدة مثل الصياغة المنطقيّة؟
يقع قياس البنية الدلاليّة للجملة عن طريق القضيّة المنطقيّة. وهذا التصوّر نجده عند الفلاسفة واللسانيّين (الدلالة المنطقيّة)
- الطرح النفسيّ الذهنيّ: دلالة الجملة تتعلق بما يحدث النفس من فهم. فهل يمكن اعتبار بنية المعنى بنية ذهنيّة توجد أساسا في تصوّر المتكلّم أوالسامع؟
 دلالة الجملة غيرلا توجد في اللفظ أو في الجمل المنجزة بل هي توجد في ذهن المتكلّم فالمعنى له طابع نفسي. ولذلك تستفيد المقاربات التوليدية والعرفانية من علم النفس لتخييل مقولات الدلالة في نفس المتكلّم (المكوّن المنطقي، الخطاطة، الطراز...).
- الطرح الطبيعيّ: هل يكون تركيب المعنى بمعزل عن تجارب الإنسان المادية والثقافية وأشكال حضوره جسده في الطبيعة؟
النظريات الدلالية العرفانيّة تستفيد من العلوم الطبيعيّة وتبحث عن نظام طبيعي للمعنى فتستعير المفاهيم التي توصّلت إليها معرفة الإنسان بطريقة اشتغال الدماغ واستيعابه للمعنى لدراسة نظام الدلالة في الجملة؛ مثل الخطاطة والطراز والصورة...

بعض هذه المقاربات يمكن أن تتقاطع وتجتمع في طور واحد أو نظريّة واحدة. فلا يمكن تصنيف قضايا الدلالة التركيبيّة ومنهجها تصنيفا تاريخيا بحسب تعاقب المدارس (بنيوية-توليدية-عرفانية) للأسباب التالية:
* نفس القضيّة يمكن أن تتناولها أكثر من مدرسة (علاقة المعجم بالنحو، العلاقة بين الدلالة والتركيب، حساب المعنى...).
* وجود مشترك منهجي بين هذه النزعات الكبرى (الشكل بين التوليدية والبنيوية/النفسية بين التوليدية والعرفانية...).
* وجود روّاد سبقوا عصرهم وخالفوا النزعة التي هيمنت في عصرهم (غيوم: بذور الطرح النفسي العرفاني للمعنى).
* تنوّع المقاربات الدلاليّة ضمن نفس النزعة ونفس المدرس اللسانيّة (العرفانيّة: طرح نفسي/ذهنيّ/طبيعيّ).
2- أهمّ المؤثّرات الإبستيمولوجيّة:  الأساس المنطقيّ للجملة
أ- الاعتماد على المنطق الأرسطي (المنطق ثنائيّ القيمة) : دلالة الجملة = قضيّة صادقة/كاذبة تصف الواقع
- حسب التصوّر المنطقيّ الأرسطيّ الجمل التي ننشئها تعبّر في الذهن عن قضيّة proposition أي عن خبر قابل للتصديق أو التكذيب. ومفهوم القضيّة يعني فكرة مركّبة في الذهن تتكوّن من أجزاء وهي:[الموضوع argument + المحمول préicat]. ورابطة أو نسبة تجمع بينهما. (إثبات/نفي). مثلا: "الطقس جميل" أو "الأمل هو المطلوب" هذان قولان يحمل كل واحد منهما قضيّة نعبّر عنها منطقيّا بـ [موضوع & محمول]. ويكون الرابط موسوما (هو) أو غير موسوم. القضيّة تكون إمّا حمليّة أو شرطيّة. تسمّى حمليّة لأنّنا نحمل الموضوع على حكم مثل إثبات شيء لشيء (الطقس جميل) أو نفي شيء عن شيء (ليس الطقس جميلا). وتسمّى القضيّة شرطيّة بمعنى مركّبة من قضيّتين تجمع بينهما رابطة. فلا تحقّق القضيّة إلا بشرط تحقّق قضيّة ثانية. مثل  إذا اجتهدت فستنجح [قضيّة1] فـ [قضيّة2].
ب –تأثير التصوّرات المنطقية المعاصرة : دلالة الجملة = قضيّة تحليليّة لا تصف الواقع ضرورة
 يقوم المنطق المعاصر على تصوّرات جديدة تخالف منطق أرسطو الذي يعتمد على قيمتي الصدق/الكذب ومدى مطابقة القضيّة للواقع (ثنائيّ القيمة). بدأت جذور المنطق المعاصر مع لايبنز Leibniz في القرن 17 ثم شهد نقلته الأساسيّة على يد كارناب Carnap ورسل Russell وفريغه Frege ليصبح منطقا رياضيا شكليا  قابلا للصورنة. فأصبح منطقا متعدّد القيم لأنّ القضيّة المنطقيّة صارت تعبّر عن المعاني الممكنة غير الخاضعة لثنائيّة التصديق والتكذيب.
لاحظ المناطقة الاختلاف بين دلالة الألسنة والحساب المنطقي بسبب تعدد الاحتمالات في اللغة الطبيعية والإحالة على أكثر من شيء. في حين يعتمد المنطق المعاصر على الشكلنة لكنّ المناطقة المعاصرين اعتبروا أنّ الجملة في اللغة الطبيعيّة تحتمل معاني متعدّدة ومن الصعب صياغتها صياغة شكلية تعبّر عن معنى واحد فبرزت الوضعيّة المنطقيّة والصياغة الرمزيّة الصارمة المتأثّرة بالرياضيّات التي تطمح إلى صياغة المعنى بطريقة شكليّة رياضيّة. حتّى برز اختصاص عند فلاسفة اللغة والمنطق يعرف بالدلالة المنطقيّة أو الشكليّة (sémantique logique/formelle).
لكن في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ المناطقة يراجعون استنقاصهم للألسنة البشرية من حيث القابلية للشكلنة بما في ذلك علم الدلالة. فساهم التطوّر المعاصر لننظريّة المنطق وتفاعلها مع الفلسفة واللسانيات في تطبيق مفاهيم المنطق على اللغة الطبيعيّة في مجال اللسانيات وفلسفة اللغة. واستفاد من ذلك علماء الدلالة كثيرا عندما حاول اللسانيون شكلنة دلالة الجملة وصياغتها صياغة منطقيّة شكليّة. من ذلك اعتمادا النحو التوليدي والنظريّات اللاحقة له والنظريات التداوليّة على مفهوم القضيّة: (المكوّن المنطقي في النحو التوليديّ/نظريّة الأدوار الدلالية / نظريّة الحالات الإعرابية عند فيلمور ...).
أصبح للمنطق المعاصر اتّجاهات متعدّدة في تناول القضيّة (منطق المحمولات، منطق الجهات، المنطق الرمزي) ومن أبرز المفاهيم المعاصرة التي استثمرها علم الدلالة مفهوم العوالم الممكنة الذي كرّس مبدأ الاحتمال والإمكان وحرّر مفهوم القضيّة من المقارنة مع الواقع. فخرج تصوّر دلالة القضيّة من ثنائيّة الصدق والكذب. فدلالة هذه القضيّة مثلا "رست بي الأحلام على ضفاف الخيال" تبدو غير خاضعو لمنطق الصدق والكذب لأنّها دلالة ذاتيّة ممكنة منسجمة داخليّا وليست صادقة أو كاذبة.
ج – تأثير العلوم العرفانيّة:
علم الدلالة هو أبرز اختصاص في اللسانيّات العرفانيّة. ولا يمكن فهم اللسانيّات العرفانيّة إلاّ ضمن شبكة من العلوم العرفانيّة التي تتناول كل ماله صلة بالذهن من مقولات الفكر ونشأة المعنى وتنظيم المعرفة وآليّات الإدراك. (علم النفس العرفاني، الذكاء الصناعي، البيولوجيا، الفلسفة التحليليّة، علوم الأعصاب) ولذلك استفاد علم الدلالة من هذه العلوم ومن أبرز مفاهيمها مثل الخطاطة والطراز والصورة والذاكرة. وتقوم تصوّرات العرفانيّين على فكرة ارتباط المعنى في الذهن بأسس طبيعية حيث يتفاعل الذهن مع المحيط الاجتماعي والثقافي والطبيعيّ.
الدلالة في الجملة تدرس من خلال طريقة تنظيم المقولات في الذهن (المَقْولة) ووتجريد المعاني في بنية شكلية مغرقة في التجريد (الخطاطة) ودراسة علاقة المفاهيم المجرّدة بطريقة تقبّلها وفهمها عن طريق الجسد (الجسدنة) وعلاقة المفاهيم الذهنيّة المجازية بالعالم المادّي (الاستعارة التصوّريّة). ليس مستغربا حينئذ أن يمرّ فهمنا للمفاهيم الدلاليّة في علم الدلالة العرفاني بعلم النفس العرفاني وعلوم الأعصاب والفلسفة والذكاء الصناعيّ.
II- أهمّ قضايا الدلالة التركيبيّة في نظريّات علم الدلالة:
أثارت مختلف النظريّات الدلاليّة العلاقة بين الوظيفة النحويّة للكلمة (وظيفة شكليّة) والوظيفة الدلاليّة التي تحدثها علاقاتها في التركيب (الدور الدلاليّ). فمثلا لو قلنا "انهزم الفريق" أو "اهتزّ المرمى" نلاحظ أنّ وظيفة الكلمتين المسطّرتين هي الفاعل ومعناهما النحويّ الشكليّ هو الفاعليّة. لكن من الناحية الدلاليّة نجد كلاهما متقبّلا للفعل مفعولا به دلاليّا. يعني ذلك التمييز بين بنية نحويّة للجملة وبنية دلاليّة قد يتطابقان (انتصر الفريق) وقد يتخالفان (انهزم الفريق). ويمكن أن نميّز بين جملة من التصوّرات النظريّة في هذا الخصوص: الفصل بينهما أو تغليب إحداهما على الأخرى.
1- الفصل بين البنية الدلاليّة والبنية النحويّة:
يُطرح الفصل بين البنية الدلاليّة والبنية النحويّة للجملة في الكثير من الأقوال. فمثلا هذا القول "انهزم الجيش" يكون فيه "الجيش" فاعلا نحويّا متكفّلا بالحدث لكنّه من الناحية الدلاليّة يكون مفعولا متقبّلا للحدث. لكنّ هذا الفصل في اللسانيّات لم يقع الانتباه إليه إلا مع تنيار وعلماء الدلالة المتأثرين بالمنطق. فمنذ البداية اهتمّ البنيويّون بالشكل اللغويّ للكلمة وكان حظّ الجملة ودلالتها من اهتمامهم ضئيلا. وأمّا الذين اهتمّوا بالجملة فقد انصبّت جهودهم على دراسة بنية الجملة من جهة العلاقات النسقيّة وتوزيع مكوّناتها في القول. واستبعدوا بذلك دلالة الجملة من دراستهم. وأبرز مثال على ذلك المدرسة التوزيعيّة التي أقصت المعنى من اهتمامها. لكنّ بعضهم ميّز بين البنية النحويّة للجملة والبنية الدلاليّة. وأبرزهم من البنيويّين الذين ميّزوا بوضوح بين المستويين النحويّ والدلاليّ اللساني الفرنسي ليسيان تنيار (Lucien Tesnière) في نظريّته حول النحو البنيويّ. يبرز هذا التمييز في فصله ضمن كلّ جملة بين بنية نحويّة قائمة على التعليق البنيويّ وبنية دلاليّة قائمة على التعليق الدلاليّ. فمثلا في القول "الطقس جميل" نجد في البنية النحويّة عنصرا يهمن على التركيب (المهيمن régissant) وعنصرا متحكّما فيه يتقبّل الهيمنة النحويّة (متعلّق به subordonné) ويقع تمثيله من الأعلى (المهيمن) إلى الأسفل (المتعلّق به). ونجد في البنية الدلاليّة عنصرا يتقبّل التخصيص الدلاليّ (المخصَّص déterminé) ونجد عنصرا آخر يقوم بتخصيصه ووصفه دلاليّا (المخصِّص déterminant).
يقع تمثيل التعليق الدلاليّ من الأسفل (المخصِّص) إلى الأعلى (المخصَّص) لأنّ كلمة "جميل" تقوم بتخصيص كلمة "الطقس" وتخبر عنها، فهي القائمة بفعل التخصيص الدلالي. ونلاحظ أنّ هذه خصائص هذه البنية الدلالية متأثّرة بمفهوم مفهوم القضيّة المنطقيّة حيث يخصّص المحمول الموضوع ويصفه دلاليّا.
2- العلاقة بين البنية النحويّة للجملة والبنية الدلاليّة بين التوليديين والعرفانيّين:
أ- علاقة الدلالة بالنحو في النحو التوليديّ:
اعتبر شومسكي وأتباعه في النحو التوليديّ أنّ الجملة توجد في الذهن في شكل  بنية نحويّة شكليّة مفترضة [بنية عميقة: فعل +فاعل + م به] وهي قابلة للتعديل (التحويل) فطرأ عليها تغييرات في البنية السطحيّة قبل النطق بها [م به + فعل+ فاعل]. هذه هي البنية الأساسيّة للجملة عنده وهي بنية نحويّة شكليّة أمّا الدلالة فهي مكوّن ثانويّ تابع للنحو وظيفته ملء تلك المكوّنات بالمعنى [أدّب الرجلُ الطفلَ←الطفلَ أدّب الرجلُ]. لكنّ النقاش الذي أثاره النحو التوليديّ حول دور المكوّن الدلاليّ ساهم في تطوير النظريّات المتعلّقة بالبنية الدلاليّة للجملة وبرزت بسبب ذلك النقاش مدارس دلاليّة أبرزها الصراع بين الدلالة التأويليّة والدلالة الوليديّة.
ب –الدلالة التأويليّة وأسبقيّة التركيب على الدلالة:
يقوم النحو التوليدي على فكرة أساسيّة قوامها أنّ الجملة تولد في ذهن المتكلّم في شكل تركيب شكليّ في مستوى البنية العميقة. وبعد اكتمالها يأتي المكوّن الدلالي لاحقا فيملؤها بالمعنى ويصفها أيّ يؤوّلها. فمثلا تولد الجملة التالية "العلم نور" في شكل مجرّد يكون خاليا من المعنى (مسندإليه+مسند) هذه النظرة تعكس تصوّرا يعتبر التركيب بنية ذهنيّة مستقلّة عن الدلالة. ويتبنّى شومسكي وتلاميذه (كاتز فودور بسطل جاكندوف) موقفا من المعنى قوامه أنّ وظيفة الدلالة هي أن تؤوّل التركيب ولذلك سمّي هذا التيّار بالدلالة التأويليّة. فالدلالة تأ تي لاحقا لتأوّل التركيب الشكلي ذي المنزلة المركزيّة في النحو التوليديّ.
ضمن هذا التيّار ازدهرت النظريّات التوليديّة المتأثّرة بالمنطق والتي تهتمّ بصياغة البنية الدلاليّة المنطقيّة للجملة. من ذلك نظريّة الأدوار المحوريّة (rôles thématiques) أو نظريّة ϴ (تِيتَا) التي طوّرها جاكندوف عندما كان متبنيا للنحو التوليدي (سيصبح لاحقا من أعلام العرفانيّة) وهي تعني أنّ كلّ عنصر في التركيب ينتقي دورا محوريّا واحدا أي وظيفة دلاليّة مثل (المنفّذ، الأداة المستفيد، المصدر، الهدف، المتاثّر...). وبذلك تكون للجملة بنية منطقية دلاليّة:
[المحمول  + المنفّذ + المتقبّل+المستفيد+المكان+ الزمان+ الهيأة+ الهدف]
   أعطى    الرجل    النقود     للطفل               اليوم            حبّا فيه
ساهم شارل فيلمور 1968 (Filmore) في تطوير هذه النظريّة لاحقا بمفهومين مشابهين.عند نقده لمركزيّة التركيب في النحو التوليدي. فاقترح مفهوم الحالة الإعرابيّة والدور الدلاليّ . وهو من مؤسّسي اللسانيّات العرفانيّة (انظر الجدول آخر الدرس).
ج –الدلالة التوليديّة وأسبقيّة الدلالة على التركيب:
تمرّد بعض تلامذة شومسكي على مسلّمة النحو التوليديّ (الدلالة تتبع التركيب) فقلبوا المعادلة لتصبح: التركيب يتبع الدلالة (لايكوف George Lakoff – روس  John R. Ross – ماكاولي  James McCawley - بوسطل Postal Paul). وقد اعتبر هؤلاء دلالة الجملة تنشأ مباشرة في البنية العميقة ثمّ بعد ذلك تتّخذ شكلا نحويّا. وهم بذلك بنوا فرضيّة جديدة معاكسة انتقلت من مركزيّة التركيب إلى مركزيّة الدلالة (النحو يحدّد الدلالة ←الدلالة تحدّد النحو). وتكمن إضافتهم في اعتبار البنية العميقة ليست بنية شكليّة بل بنية دلاليّة منذ البداية. لكنّ هذا التيّار الذي عرف بالدلالة التوليديّة (الدلالة تولّد الجمل) لم يعمّر كثيرا مع انتقال اللسانيات تدريجيّا من طورها التوليدي إلى طورها العرفاني فقد مهّد هؤلاء لهيمنة العرفانيّين وأصبح كثير منهم عرفانيّين متخلّين عن المقاربة التوليديّة.
3- مركزيّة الدلالة التصوّريّة عند العرفايّين:
اعتبر العرفانيّون أنّ دلالة التركيب ليست حقيقة لغويّة توجد في الألفاظ فهي ليست قضيّة تأليفيّة ترتبط بالعالم الخارجيّ. بل هي حقيقة ذهنيّة في شكل بنية تصوّريّة مجرّدة ينشئها المتكلّم أو السامع (قضيّة تحليليّة) ويستند العرفانيّون في ذلك إلى جملة من المفاهيم الجديدة التي أحدثت ثورة في علم الدلالة ( المفهمة – المَقْوَلة – الخطاطة – الاستعارة التصوّريّة ).
تعني الدلالة التصوّريّة أنّ معنى الجملة يتحدّد في تصوّر المتكلمين وفي أفهام السامعين. فالتركيب اللغوي لم يعد هو مركز الاهتمام كما كان عند البنيويين بل هو مجرّد بنية لفظية ترمز لما يحدث في الذهن من بنية دلالية تصوّريّة. وقد تبنّت اللسانيات العرفانيّة من خلال نظريّات كثيرة في علم الدلالة العرفانيّ هذا الطرح. وتنوّعت فيها المقاربات لكنّ الجامع بينها اعتبار الدلالة في الذهن ذات طابع تصوّريّ ذهنيّ. ومن أبرز خصائص هذه النظريّات:
* دلالة الجملة لا تتحدّد في التركيب بل في ذهن المتكلّم والسامع (المعنى له طابع تصوّريّ).
* الدلالة التركيبيّة عمليّة بناء منظّم للمقولات في شكل صور ذهنيّة وأشكال ذهنيّة متناسقة ومترابطة (الطابع الخطاطي للمعنى).
* الدلالة التركيبيّة ليست بنية جاهزة بل ذات طابع حركيّ حصيلة تفاعل بين الذهن والطبيعة واللغة. (البعد الطبيعيّ للمعنى)
 لقد أصبحت دلالة الجملة عند العرفانيّين تتحدّد في الذهن بتأثير المحيط الطبيعيّ وإدراك الجسد فهي عبارة عن بنية تصوّريّة لكنّها متفاعلة مع محيط المتكلّم وحضوره المادّي المتجسّد. ولذلك نجد تاثيرا واضحا لعلم النفس العرفانيّ وبقيّة العلوم العرفانيّة في علم الدلالة العرفانيّ. ومن هذه النظريّات يمكن أن نذكر نظريّة الفضاءات الذهنيّة عند فيلمور ونظريّة لايكوف وجونسون في الاستعارة التصوّريّة ونظريّة لانقاكير في النحو العرفاني ونظريّة جاكندوف في البنية التصوّريّة.
النظريّة العرفانيّة
مؤسّسها
تصوّرها للدلالة


دلالة الأطر
frames semantics


شارل فيلمور
قدّم فيلمور في البداية مفهوم الحالة الإعرابيّة (1968grammaire des cas) وهو مشابه لنظريّة ϴ. وقوامه أنّ الفعل في الجملة مرتبط بجملة من الوظائف الدلاليّة سمّيت في ما بعد الأدوار الدلاليّة وهو بذلك يردّعلى النحو التوليدي. ففيلمور يعتبر البنية الدلاليّة أهمّ من التركيب. ثمّ كانت نظريّته الموسومة بـ"دلالة الأطر"  (1976)من النظريّات المؤسّسة للسانيّات العرفانيّة. ومعنى الأطر أنّ المرء لا يفهم معنى الكلمة في الجملة دون أن يستحضر في ذهنه مجموعة من المعارف المتنوّعة الخاصّة بتلك الكلمة. فالأطر ضرب من البنية الذهنيّة المجرّدة التي تتحدّد حول معنى الكلمة انطلاقا من المعارف والتجارب التي عاشها المتكلم.

النحو العرفانيّ
cognitive grammar

رولاند لانقاكير
تعتبر نظرية لانقاكير أنّ الجمل بما تحمله من بنية نحويّة وألفاظ تمثّل رموزا تقترن ببنية دلاليّة تصوّريّة في الذهن. هذه البنية يقع تمثيلها بصور خطاطيّة لا بقضايا منطقيّة. وهو بذلك لا يفصل بين الدلالة والتركيب بل يعتبرها امتدادا لمفهوم التصوّر. وهو عبارة عن اعتقادات وصور ومفاهيم في ذهن المتكلّم.

الاستعارة التصوّريّة
conceptual metaphor

جورج لايكوف مارك جونسون
المجاز لا يتعلّق بالتراكيب اللغويّة بل بطريقة تفكيرنا وفهمنا للعالم من حولنا. لذلك تتحقّق الاستعارة في تفكيرنا لا في التركيب لأنّ بنيتنا التصورية استعارية وكل تفكيرنا استعاريّ وكلّ خطاب مهما كان مجاله (الأدب، الصحافة، الحياة اليومية) قائم على استعارات تصوّريّة... مثلا نحن نفكّر في المجرّد عن طريق ما نعرفه عن المحسوس: (قيم عالية عادات بالية، حرب باردة)

الفضاءات الذهنيّة
mental spaces

جيل فوكونيي
الفضاء الذهني عبارة عن وضعيّة في شكل بنية تصوّريّة مجرّدة متكوّنة من أطر وعناصر وعلاقات مترابطة تتحقّق في العبارات مثل الحالات الشعورية والرغبات والاعتقادات. هذه الفضاءات لا ترتبط بالواقع المادّي بل تنتج عالما عرفانيّا مؤمثلا. وتمثّل هذه النظريّة امتدادا لمفهوم العوالم الممكنة عند المناطقة (فريغه).

البنية التصوّريّة
conceptual structure

راي جاكندوف
دلالة الجملة تعود إلى بنية تصوّريّة في الذهن. هذه البنية توجد في المستوى الذهني وتخزّن المعلومات الحسّيّة واللغويّة والحركيّة معا. فدلالة أقوالنا وأفكارنا وكل نشاط دلاليّ هو جزء من تلك البنية التصوّريّة. تقوم نظريته على ما يسمّيه الهندسة الثلاثية المتوازية: وجود البنية الصوتيةّ والبنية التركيبيّة والبنية الدلاليّة جميعها في نفس المستوى التصوّريّ. وتعالج كلّها في مستوى البنية التصوّريّة.


هناك 3 تعليقات:

  1. بحث جيد متعدد المفردات

    ردحذف
  2. في ٱطار الدلالة التركيبية دكتور، هل نتحدث عن الدلالة كمستوى من مستويات الدرس اللساني، أم أننا نتناول الدلالة التي تحدثها الكلمات عندما تسكب في التركيب، هذا يحيلنا على النظم عند الجرجاني، فنتاول خلالها تلك الدلالة المتولدة عن التضام بين المفردات؟

    ردحذف
  3. هل من الممكن تقديم درس حول مفهوم الطراز في المقولة

    ردحذف

قائمة المصادر والمراجع المعتمدة في درس  علوم دلاليّة تجدون روابط التحميل أسفل كلّ مرجع متاح وسيتم تحيين بقية الروابط كلما توفّرت 1 - ...