العودة إلى الصفحة الرئيسية لمنصة عين عربيّة

الأربعاء، 11 مايو 2016

كيف يمكنك أن تعدّ مادّة العلوم الدلاليّة؟

أوّلا لنحدّد الهدف الذي يراد من تكوينك في هذه المادّة، فالامتحان هو اختبار في مدى تحقّق تلك الأهداف. 
الهدف هو :
- أن تكون مدركا للقضايا الأساسّيّة التي يطرحها علم الدلالة حول المعنى.
- أن تكون مدركا للاختلافات المنهجيّة بين مختلف النظريّات والعلاقات بينها
- أن تكون لك القدرة على تمييز المفاهيم وحسن استخدامها
- أن تكون قادرا على الربط بين المفاهيم والقضايا النظرية وتحليل أمثلتها.
- أن تحسن بناء أفكارك عند الحديث عن هذه المسائل جميعا
2- كيف أعدّ  نفسي للامتحان؟
الاستعداد يكون في مستويين: نظريّ ومنهجيّ:
أ- الاستعداد النظريّ يكون في أربع خطوات:
- لخّص الدروس لتستخرج منها المفاهيم الأساسيّة وتضبط قائمة مصطلحاتك التي ستستخدمها.
- لخّص الدروس لتستخرج أهمّ الأفكار وأهمّ النظريّات حول قضايا المعنى.
تذكّر جيّدا هناك فرق بين المفهوم والفكرة. مثلا الترادف (مفهوم) / إنكار وجود الترادف في اللغة (فكرة)
- اقرأ ما يتيسّر لك من دراسات لتعمّق فهمك للقضيّة جيّدا وتتسلّح بأمثلة وأفكار تميّزك عن غيرك.
- احرص على الجلوس مع نفسك قليلا وانت تحاول الفهم أو النقاش مع زملائك لتختبر مدى فهمك للمسائل.
ب- الاستعداد المنهجيّ: 
بدونه يذهب الاستعداد النظريّ أدراج الرياح. لكن تمهّل بإمكانك دائما أن تستعدّ على نحو أفضل. لم يفتك شيء. عليك إذن بهذه الخطوات:
- خصّص وقتا لإدامة التفكير والقراءة وإعادة القراءة فأنت في امتحان تفكير وليس في امتحان ذاكرة.
-  عوّد نفسك على التخطيط: ابدأ بالتخطيط للأفكار الكبرى سواء في الموضوع أو تحليل النص: حددّ العناصر الكبرى للتخطيك (محوران أو ثلاثة) ثم عد إلى كلّ عنصر وحلّله إلى فكرتين أو ثلاثة أفكار فرعيّة
- ضمن كل فكرة فرعيّة حدّد الأفكار الجزئيّة. سيسهّل عليك ذلك الكتابة لأنك ستعرف مسيقا إلى أين يمضي تحليلك.
- تدرّب على الكتابة وعد إلى كل مفهوم أو فكرة أو نظريّة وخذ مثالا تطبيقيّا وحاول تحليله بلغتك الخاصّة.
- خذ فكرة جزئيّة وتدرّب على تحليلها والتدرّج في تفصيلها مثلا:
شرح الفكرة أو الموقف النظريّ بسط المفاهيم والمصطلحات-  استخدام أمثلة توضيحيّة- إبراز أهمّ المواقف ضمنها -  كشف الخلفيّات الفكريّة والفلسفيّة وراء الفكرة المقارنة مع مواقف وأفكار أخرى  - استخلاص الإضافة التي حقّققتها -  حسن التخلّص ليسهل الانتقال إلى الفكرة الجديدة
- انطلق دائما من الأمثلة والأفكار والمواقف وتجنّب الابتداء بالتعريفات مثل (علم الدلاة هو... التحليل المكوّني هو...) فعندما تحلّل أنت تبيّن منهجيّة النظريّات وتكشف ما وراءها من خلفيّة ومآزق منهجيّة استدعت تجاوزها. وليسهل عليك ذلك انطلق من الأمثلة والأفكار والمواقف ثمّ  تذكّر أنك تستخدم مصطلحات ومفاهيم دقيقة في بسط التصوّر النظري فعرّفها أثناء التحليل.
3- ما هي الصعوبات التي تعترضني أثناء الاستعداد؟
لا تكن مثاليّا توجد دائما صعوبات. ولكن ها أنت ذا هنا لتتغلّب عليها وتثبت للمتحن جدارتك في تجاوزها. لكن لن تتغلّب عليها إلا بحسن الاستعداد. فهاك بعض مقاييس حسن الاستعداد في شكل أسئلة:
- أدواتك في العمل: نظريّة تفهمها/ مفاهيم ومصطلحات تحلّل بها/ أمثلة تنطلق منها. فهل صرت تميّز بين الفكرة والمفهوم والنظريّة المتكاملة؟
- هل يمكنك أن تتدرّج من شرح المثال فتنتقل رويدا رويدا إلى التعريف بالمفاهيم فشرح تكامل النظريّة؟
- هل تدرك الفوارق بين النظريّات. وتحسن اختيار المصطلحات مع كل نظريّة.
- هل تستطيع الكتابة بجمل بسيطة خالية من التعقيد؟
- هل تحسن التخطيط فتمضي في تحليلك وأنت تبني ما يمهّد للفكرة القادمة؟
- هل راجعت عملك فتتضّح لك أخطاء لغويّة ومنهجيّة ونظريّة فتصلحها في الحين؟
- عندما تكتب هل أنت بصدد المضيّ بلا غاية أم تتقدّم حسب ما رسمته في التخطيط؟
- عندما تكتب هل تعود في كل مرة غلى أوّل فقرة وتعيد القراءة ليسهل عليك بناء فكرة جديدة؟
- اسأل نفسك هل أخذت نموذجا لموضوع أو لجزء من موضوع أو نصّا وتدربت على تحليليه ؟ 


إذا كنت قد أعددت نفسك جيّدا من خلال هذه الخطوات. فكن واثقا من نفسك فالجهد يورث الثقة بالنفس. وأنا أثق فيكم جميعا وفي فطنتكم  حظّا موفّقا لطلبتي الأعزّاء

الأربعاء، 4 مايو 2016

الدرس الرابع: قضايا المعنى في الدلالة التداوليّة

اضغط هنا لتحميل الدرس الرابع

 قضايا المعنى في الدلالة التداوليّة
اهتمّت الدلالة  منذ نشأة اللسانيّات بخصائص نظام اللغة سواء في التراكيب والمفردات اللغوية أو في بنية الذهن كما هو الحال عند البنيويّين والتوليديّين. فكان التركيز على علاقة المعنى بالشكل اللغويّ (تركيب/مفردة). لكنّ جانبا محدّدا من تلك العلاقة يتعلّق بعلاقة اللغة بالاستعمال بقي دون الاهتمام النظريّ المطلوب قبل السبعينات. فدلالة الكلمات والتراكيب اللغويّة ليست فقط نظاما بنيويّا يربط الشكل بالمعنى ويقبل الوصف والتحديد ضمن قواعد نيويّة وقواعد توليديّة بل هي متفاعلة مع معطيات المقام من متكلّم وسامع وظروف محيطة بهما. ولذلك نلاحظ أنّ نفس القول يمكن أن تكون له دلالات مختلفة بين مقامين مختلفين. وهذا الاختصاص الذي يربط دلالات اللغة بالاستعمال ضمن مقام محدّد هو ما بات يعرف اليوم بالتداولية (pragmatics/pragmatique). ولذلك يمكن أن نميّز إضافة إلى الدلالة المعجميّة للألفاظ والدلالة التركيبيّة للجملة، ضربا ثالثا من الدلالة نسمّيه الدلالة التداوليّة.  
I- الإطار الفلسفيّ لدراسة الدلالة التداوليّة: التداوليّة اختصاص لسانيّ أم فلسفيّ؟
1- تأسيس التداوليّة في فلسفة اللغة:
      ساهم كلّ من أوستين في وغرايس في منتصف القرن العشرين في تأسيس التداوليّة (Pragmatics) اعتمادا على من منطلقات فلسفيّة ترتبط بفلسفة اللغة وهي امتداد للفلسفة التحليلية. لقد كانت أعمالهم ذات قيمة كبرى وتأثير كبير في علم الدلالة وفي أعمال اللسانيّين. لكنّهم في الحقيقة يستندون إلى تقليد عريق في مجال دراسة التداول والاستعمال في مجال الفلسفة والمنطق. هذا التقليد يعود إلى جذور المنطق المنطق المعاصر مع فريغه ومن تاثّر به مثل روسّل وكارناب وفيتغنشتاين.

أ - جذور فكرة التداوليّة في الفلسفة الذرائعيّة المعاصرة :   Pragmatism 
ثمّة تمييز اصطلاحيّ في التقاليد الفلسفية الغربيّة بين مفهومين: النفعيّة (pragmatism) و التداولية (pragmatics).
أمّا النفعيّة أوالذرائعيّة فهي تحمل بذور فكرة التداوليّة وترتبط بتيّار فلسفي هدفه ربط المفاهيم المجرّدة بالمعطيات الاختباريّة وقد نشأت في تيار فلسفي واسع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أسّسه كلّ من بيرس (Charles Sanders Peirce) وجون ديوي ( John Dewey) وويليامز جايمس (William James). ويعني ضرورة أن تدرس الأشياء انطلاقا من تأثيرها في الواقع لا في مثاليّتها المتعالية عن الواقع. وكان لهذا التيّار تأثير في المنطق والسيمياء اللسانيّات. ومن أمثلة ذلك حديث بيرس عن المؤوّل ضمن تصوّره للعلامة وهو مفهوم معقّد يجمع بين مثاليّة المنطق وواقعيّة السيمياء. ولذلك يمكن اعتبار فكرة التداوليّة في فلسفة اللغة منتصف الخمسينات عائدة في جذورها إلى هذا التيّار.
ب-  الفلسفة التحليليّة والدراسة العلميّة للمعنى في اللغات الطبيعيّة:
من امتدادات هذه الفلسفة النفعيّة ظهور الفلسفة التحليليّة منذ أواخر القرن التاسع عشر وهي نزعة في دراسة اللغة ربطت التفكير بالمنطق المعاصر تجد في مؤسّس المنطق المعاصر فريغه 1925 (Frege) الملهم الأوّل وتجد في أعمال تلميذه روسّل 1970  (Russell)الأب المؤسّس. الفلسفة التحليليّة قائمة على فكرة قيام تفكير الإنسان على لغته وهي ذات اتجاهات مختلفة أبرزها الوضعيّة المنطقيّة (كارناب) وفلسفة اللغة اليوميّة (فيتنغشتاين). فكيف ساهمت هاتان النزعتان الفلسفيّتان بتعاقبهما في ظهور التداوليّة في فلسفة اللغة.
* تمييز فريغه بين القضيّة التأليفيّة والقضيّة التحليليّة:
يعتبر فريغه 1925 (Frege) هو المؤسّس للمنطق الحديث القائم على حساب القضايا وكان تأثيره مباشرا على أبرز أعلامها روسّل وفيتنغشتاين وكارناب. مشروعه قائم الربط بين المنطق والرياضيات لصياغة المعنى صياغة شكلية. (logicisme) وقدّم مفاهيم ذات تأثير في الفلسفة التحليليّة والتداوليّة. كان لفريغه تأثير كبير في الفلسفة التحليليّة التي قادت أعمالها لاحقا إلى تأسيس التداوليّة. لاحظ فريغه أن القضيّة الحملية عند أرسطو عندما تتعلّق بموضوع يكن اسم علم (زيد كريم) فإنها تحمل إحالة (زيد يحيل على شخص حقيقيّ) أمّا المحمول فهو لايحيل بل يقدّم تصوّرا لا يخضع لشروط الصدق لانّه محض تصوّر. أخرج هذا التصوّر المنطق من ثنائية الصدق والكذب وميّز فريغه بين نوعين من القضايا ضمن القضيّة الحمليّة: تأليفيّة وتحليليّة، فالقضية التحليليّة ليست خاضعة للمقارنة مع الواقع لأنّ شروط صدقها ذاتيّة ترتبط بمدى انسجامها المنطقيّ.
وضمن  القضيّة التأليفيّة  كون البحث في القضايا المتّصلة بالإحالة. وضمن استتباعات القضيّة التحليليّة تتنزّل جهود الفلسفة التحليليّة وما وتصّل إليه التداوليّون من نظريّة الأعمال اللغويّة والاستلزامات في المحادثة.
* استثناء الوضعيّة المنطقيّة للّغة الطبيعيّة من مشروع شكلنة المعنى:
امتدادا لمشروع فريغه في ربط المعنى  بصرامة الرياضيّات والمنطق ظهرت نزعة منطقية في النصف الأوّل من القرن العشرين تُعرف بالوضعيّة المنطقيّةpositivisme logique) ). وقد قادها أدولف كارناب 1970 Carnap)) متأثرا بأفكار روسل وتمثّل ضربا من التجريبيّة المنطقيّة هدفها تفسير الحقائق العلمية عن طريق معطيات الواقع والتجربة، وفصل الاعتقاددات عن العلم. وتعتبر هذه النزعة المنطقيّة أنّه لا جدوى من الحقائق العلميّة إن لم تساهم في تغيير الواقع. فالمفاهيم المنطقيّة ينبغي أن تدرس انطلاقا من استعمالها وتأثيرها في الواقع. ولذلك تمثّل الوضعيّة المنطقيّة تحوّلا جذريّا في فلسفة المنطق المعاصر. لكنّ صرامة الطابع الشكليّ لهذه المدرسة المنطقيّة جعلها تقصي القدرات التواصلية الكبيرة في اللغات الطبيعية فظلّت تستبعد اللغة الطبيعيّة من دراستها بذريعة عدم القدرة على شكلنتها وصياغتها رمزيّا فكان تركيزها منصبّا على اللغات الصورية المنطقية. وكان مشروعها تحديد المعنى المنطقي الصارم الكامن وراء اللغة الطبيعيّة.
* نقد فلسفة اللغة اليوميّة للوضعيّة المنطقيّة:
 فلسفة اللغة اليومية قامت على نقد هذه الأطروحة عند المناطقة الوضعيّين. وفي نفس الوقت كانت توسيعا لمبادئ فريغه وأبرز من أسّسها في مدرسة فيينّا روسّل 1970 (Russell) أب الفلسفة التحليليّة راجعت الفلسفة التحليليّة في العقد الثاني من القرن العشرين بعض مسلّمات الوضعيّة المنطقيّة حول اللغة الطبيعيّة وما كان يعتقده المناطقة من أنّ اللغات الطبيعيّة لا تقدّم لنا معرفة علميّة دقيقة حول نظام المعنى واستعماله.  ومن أبرز المؤثرين فيها فيتغنشتاين Wittgenstein (1951) الذي
أسّس نزعة تعرف بفلسفة اللغة اليوميّة. وهي نزعة تركّز على المعنى التداوليّ في اللة الطبيعيّة وتدعو إلى عدم الاكتفاء بالنزعة المنطقيّة الصارمة فمثّلت بذلك نزعته نقدا وتجاوزا للوضعيّة المنطقيّة. تحدّث فيتغنشتاين عن مفهوم ألعاب اللغة. أمّا تشبيه اللغة باللعبة فالمقصود به أنّ القضايا التي تعبّر عنها اللغة اليوميّة المستعملة لا تقاس بمنطق الصدق بل ترتبط باعتقادات المتكلم بشكل يشبه ألاعيب اللغة. وهو يقصد أنّ معاني الكلمات فضفاضة  لكنّ نظامها يتحدّد مثل اللعبة من استخداماتها المختلفة. ومعنى اللعبة يقتضي أيضا القدرة على إنهاء الغموض في معاني اللغة لأنّ لكلّ لعبة نهاية ومجموع تلك الاستخدامات يكشف قوانين المعنى في اللغة اليوميّة. ومن خلال ذلك النقد استعادت اللغة الطبيعيّة مكانتها من خلال دراسة اللغة اليوميّة المستعملة عند المتخاطبين
وبذلك صارت اللغة الطبيعيّة أساسا علميّا للمعنى وفي صلب اهتمام الدراسة الفلسفيّة وهذا ما سيمهّد السبيل لفلاسفة اللغة لإنشاء نظريّاتهم حول الأعمال اللغويّة (أوستين، سورل) والمحادثة (غرايس) والمناسبة (ويلسون & سبوربر).
2 - مساهمة اللسانيين في دراسة علاقة اللغة بالمقام  :
      إنّ وسم علم الدلالة بالتداوليّ يعني أنّ علم الدلالة يتقاطع في اهتماماته مع التداوليّة في الفلسفة. لكنّ الباحثين يميّزون بين تداوليّة تتبع اختصاص اللسانيّات وتداوليّة تتبع اختصاص فلسفة اللغة. وقد لاحظ موشلار أنّ تاريخ اختصاص التداوليّة في اللسانيّات يعود إلى السبعينات من القرن العشرين في حين يعود تارخ اختصاص التداوليّة في الفلسفة إلى الخمسينات. ويعني ذلك أنّ الباحثين يميّزون بين ضربين من التداولية أحدهما ناتج عن جهود فلاسفة اللغة والثاني ناتج عن جهود اللسانيّين. ومع أنّ الفلاسفة كانوا السباقين إلى طرح قضايا اللغة في علاقتها بالاستعمال. فإنّ التنازع  بقي مستمرّا بين من يعتبر الدلالات التداوليّة اختصاصا لسانيّا أصيلا ومن يعتبرها اختصاصا فلسفيّا صرفا.  لكنّ الثابت أنّ انفتاح اللسانيين على جهود الفلاسفة والمناطقة أفرز الكثير من النقاشات والنظريّات والبحوث في مجال الدلالة التداوليّة. تتعلّق كلّها بما يطرحه استعمال اللغة في مقامات التواصل من إشكاليات وقضايا.  
      لكنّ اللسانيّين قبل وصل جهودهم بجهود الفلاسفة لم يكونوا بمنأى عن فكرة علاقة اللغة بالمقام. صحيح أنّ اللسانيّين في النصف الأوّل من القرن العشرين كان مبلغ همّهم هو تحديد خصائص النظام سواء في اللغة عند البنيويّين أو في الذهن عند التوليديّين. تعني التداولية في اللسانيّات أنّ بعض عناصر اللغة من مفردات وتركيب لا يمكن فهم دلالتها إلا من خلال ربطها بالمقام. وتعود الفكرة الأولى لتدخّل المقام إلى أعمال دي سوسير وجاكبصون حين أكّدوا على الوظيفة التواصليّة للغة. لكن ينبغي انتظار قدوم بنفنيست لتظهر أولى أعمال اللسانيات التي تحمل بذور التداولية اللسانيّة (Problèmes de linguistique générale 1966) حيث تناول علاقة اللغة بحدث التلفّظ (لسانيّات التلفّظ) بما يعنيه ذلك من استحضار عناصر المقام من متكلم وسامع وظروف إلقاء القول. كما ساهم غرايس رغم تكوينه الفلسفي بنظريته حول الخطاب واستلزامات المحادثة. ومن اللسانيّين التداوليين المشهورين نذكر جاك موشلار وزوجته ىن روبول وكذلك أوزوال ديكرو.
ويبدو أنّ فكرة التداوليّة تطرح من زاوتي نظر متنازعتين عند اللسانيّين: هل يمكن اعتبار المعنى التداولي من اختصاص علم الدلالة (دلالة مدمجة) أمّ المعاني التداوليّة اختصاص خارج عن اهتمام اللساني وجزء من اهتمام الفلاسفة التداوليّين؟

     أ- علاقة الدلالة بالتداوليّة: التداوليّة المدمجة / التداولية الجذريّة.
يمكن التمييز في علاقة علم دلالة بالتداوليّة بين تصوّرين نظريّين متناظرين لا يزالان متصارعين: أحدهما يعتبر التداولية جزءا من دلالة النظام اللغويّ. (وجهة لسانية) والثانية تعتبر أنّ التداوليّة ليست جزءا من دلالة اللغة بل شيئا منفصلا عن النظام النحويّ.

* التداوليّة المدمجة:
تعني أنّ المعاني التداوليّة في استخدام اللغة جزء من علم الدلالة. وأبرز من استخدم هذه الاطروحة ديكرو في دراسته للحجاج. ويقوم هذا التصوّر على فكرتين:
 - الفكرة الأولى: اللغة لها وظيفة غير وصفيّة للواقع. فهي لا تصفه بل تنشئ أعمالا لغويّة تعبّر عن ذات المتكلّم مثل الوعد والتهديد والتأكيد والاستفهام والإخبار.فدلالات اللغة بذلك تعود إلى وظيفتها التواصليّة التي حدّدها جاكبصون في شكل : باث متقبّل. وبذلك فالجانب التداولي في صلب نظام اللغة ألم يعتبر دي سوسير اللغة نظاما وظيفته التواصل؟
-  الفكرة الثانية: فهم أيّ قول يعني فهم دواعي إلقائه من خلال مقام التلفّظ. يقول ديكرو 1980: "إنّ معنى قول ما هو صورة لعمليّة إلقائه". فلكلّ مقال مقام يتحكّم في دلالاته. ويعني ذلك أنّ للقول إحالة انعكاسيّة: أي أنّ القول يحيل على نفسه (إنشاء الاستفهام الوعد التهديد...) فالقول ليس وصفا للأشياء في الخارج (ليس إحالة) بل إنشاء لعمل لغويّ. وهو بذلك حقيقة تحليليّة ولا يحيل بالضرورة على حدث أو مرجع في الواقع .




* التداوليّة الجذريّة:
المعنى التداوليّ في هذا التصوّر ليست جزءا من علم الدلالة بل هو منفصل عنه. لأنّه خارج نظام اللغة وبذلك تكون التداوليّة نظرة فلسفيّة وليست شيئا يقتضيه نظام اللغة. فالقول من الناحية المنطقيّة عموما يحمل جوانب صدقيّة تهتمّ بها الدلالة وجوانب غير صدقيّة تهتمّ بها التداوليّة بشكل منفصل.
مثلا القول " وأخيرا أحمد اشترى مرسيدس" يحمل جوانب صدقيّة (إحالة أحمد على شخص حقيقي وارتباط المرسيدس بمقولة السيارة حسب منوال ش ض ك..) لكنّ القول يحمل جوانب غير صدقيّة وهي اقتضاءات واستلزامات لم يذكرها القول ومنها: (واجه أحمد صعوبات قبل شراء السيارات، فشل أحمد سابقا في شراء السيارة، لم يملك أحمد من قبل هذا النوع من السيارات، أحمد غنيّ...). الدلالة التداوليّة هي إذن هذه الجوانب غير الصدقيّة الخارجة عن نظام اللغة والتي يكشفها المقام عن طريق الاقتضاء والاستلزام.
ب - أهمّ القضايا والمفاهيم التداوليّة في علاقتها بعلم الدلالة:
يمكن أن نحدّد مجموعة من المفاهيم والقضايا التي ترتبط بالدلالة التداوليّة وهي تتناول علاقة اللغة بالمقام:
* من الجملة إلى القول: التداوليّة لا تدرس دلالة الجملة لأنّ ذلك من مشمولات الدلالة التركيبيّة (الفاعلية، المنفّذ، الموضوع، المحمول...) ما تدرسه التداوليّة هو القول. ويعني القول وجود مقام يؤثر في دلالة الجملة المنطوقة. إذن التداولية مجالها الإنجاز (القول) وليس النظام (الجملة).
* المقام : يتدخّل المقام في تحديد دلالة القول فهو عنصرأساسيّ لتحقيق التواصل. ويتمّ التواصل عند جاكبصون من خلال جملة من العناصر:( باث متقبل قناة سنن رسالة مرجع). نلاحظ أنّ الرسالة التي يراد تبليغها من القول تتغيّر بتغيّر عناصر المقام: زمان/ مكان /باث/ متقبّل. فمثلا القول "صباح الخير" يتحوّل من الجدّ إلى الهزل إذا نطقناه في العشيّة بدلا من الصباح.
مثال التحية وتغيّر الأزمنة والأمكنة. ونلاحظ أنّ القول يحمل الكثير من المشيرات المقاميّة التي تساهم في تحديد دلالة الجملة مثل اسم الإشارة وضمائر المخاطب والمتكلّم.
* القضيّة: هي المضمون الدلاليّ للقول. القضيّة مفهوم منطقيّ يتكوّن في معناه البسيط من عنصرين: [موضوع]+[محمول] وتسمّى عند أرسطو قضيّة حمليّة. ويعني الحمل أنّ العنصر الثاني المتحدّث عنه (الموضوع) يسند للأوّل صفة أو خبرا (إنّ زيد كريم، هل زيد كريم، ليس زيد كريم) فالملاحظ أنّ هذه الأقوال تحمل منطقيّا قضيّة واحدة وهي (زيد كريم) وإنضاف إليها إنشاء المتكلم لعمل (تأكيد، استفهام، نفي...). وتقوم القضيّة على شروط الصدق عند أرسطو. لكنّ ثورة في علم المنطق حدثت مع فريغه فأخرج تصوّر القضيّة من ثنائيّة الصدق والكذب عندما ميّز في القضيّة الحمليّة بين نوعين من القضايا: تأليفيّة تحيل على الواقع وتحليليّة منسجمة داخليّا ولا تصف الواقع فلا تخضع للصدق والكذب. وضمن النمط الثاني تتنزّل الكثير من أعمال التداولييّن وأصحاب الفلسفة التحليليّة.
* الحقيقة التأليفيّة (أو التركيبيّة) .(vérité synthétique) هي القضيّة التي تتعلّق بما يوجد حول المتكلّم من وقائع وحقائق في العالم. وتقتضي شروط صدقها مقارنة مضمون القضيّة مع العالم الخارجي غير اللغويّ. ويتوقف صدقها أو كذبها على تطابقها مع العالم الخارجي. وكل ما ينقل من أخبار أو ما تقوله العلوم الطبيعية أو نشرة الأخبار عن عالمنا الخارجي باللغة فهو قضايا تأليفيّة. ففي نشرة الأخبار أو البحوث العلميّة التجريبية يمكن أن ننشئ بالأقوال قضيّة : "وقع البارحة هجوم في بنقردان"/ "هذا السيّد هو المذنب"/"اشتريت البارحة نصف رطل من اللحم"/ "يرتفع السحاب بسبب كتل الهواء الساخن").
ضمن هذا المستوى تتحدّد القضايا المتّصلة بالإحالة.
*  الحقيقة التحليلية (vérité analytique) هي القضيّة التي لا تتعلّق بما يوجد في العالم بل بفكرة ينشئها المتكلّم وغالبا ما تكون تعريفا عامّا. وهي تعتمد على تحليل المحمول لحقيقة الموضوع (الأسد حيوان لاحم /إثنان هو مجموع ثلاثة وستّة/ السندباد طار في السماء)  فلا يتوقف صدقها أو كذبها على الاقتران بشيء ما في العالم الخارجيّ بل على مدى الانسجام بين مكوّناتها وعدم التناقض بين طرفيها (المحمول والموضوع) كما في تعريفات العلوم الصورية المجرّدة مثلا حين نقول: "البنية العميقة هي النواة الأولى للجملة". وتقوم أهمّ مباحث المنطق مثل قواعد القياس والاستلزام والاقتضاء وعدم التناقض، على مفهوم القضايا التحليليّة. (سقراط إنسان← كل إنسان فان←سقراط فان).
ضمن ها المستوى التحليلي سيميّز التداوليّون لاحقا الأعمال اللغويّة والاستلزامات في الحوار.
* الاستدلال: ما يقوله المتكلّم أقل بكثير ممّا يبلّغه. فما يتحقّق بصفة غير مباشرة من دلالات أكثر ممّا يقال ففي القول كثير من الدلالات التي يمكن استخراجها والاستدلال على وجودها عن طريق مفاهيم الاقتضاء والاستلزام. وهذان المفهومان حظيا بنظريّات وبحوث كثيرة. امذا دلالة الاقتضاء (présupposition) فهي جملة من المحتويات والمضامين الدلاليّة (معلومات) تقترن بالكلام المنطوق ويعلم بها المتكلّم مسبقا وتكون ضربا من الأرضيّة التي يبني عليها دلالة كلامه. وأمّا  دلالة الاستلزام (implication) فتتعلّق بمعلومات دلاليّة تنتج عن القول المنطوق أثناء الحوار فمثلا لو قلت "زيد له فكرة مناسبة". فهذا القول يحمل كثيرا من الدلالات التداوليّة التي نستدلّ على وجودها منها: أنّ هناك مأزقا ومنها أنّ الحل سيكون مع زيد ومنها أن زيد شخص ذكيّ ومنها أنّي أعرف زيد مسبقا.
* العمل اللغويّ : العمل اللغويّ هو إنشاء للمتكلّم للدلالات باللغة. فهو المعنى الاعتقادي الذي ينشئه المتكلّم بالقول فالمنطق المعاصر يبرز أنّ القول ليس فقط قضيّة نحيل على الواقهع بل هو كذلك إنشاء لعمل في اللغة (استفهام تأكيد نفي وعد تمنّي تنبيه...)
* الإحالة: كلّ قول هو إحالة على أشياء موجودة لكن هل يكون المرجع المحال عليه دائما شيئا حقيقيّا؟ هناك إحالة على عوالم ممكنة توجد في خيال المتكلمين.




II – مساهمة النظريّات التداوليّة في قضايا علم الدلالة:
لا يمكن تصنيف النظريّات التداوليّة ضمن المدارس اللسانيّة لأسباب نذكر منها ثلاثا : أوّلا ارتباط نشأتها بالتقاليد الفلسفيّة لا اللسانيّة. وثانيّا لوجود صلات متأخّرة بين اللسانيّات والفلسفة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. وثالثا لأنّ التداوليّة ليست نظرية يفي نظام اللغة كما هو الحال في اللسانيات البنيويّة (التركيز على نظام اللغة بدل الكلام) أو في التوليديّة (التركيز على الكفاءة الذهنيّة بدل إنجاز الأقوال). لقد دخلت التداوليّة اليوم النزعة العرفانيّة  فصرنا نتحدّث في نظريّة المناسبة عن تداوليّة عرفانيّة مثلها مثل اللسانيات العرفانيّة وعلم الدلالة العرفانيّ فكأنّها نظيرة لهما. والتداوليّة وإن كانت اختصاصا مستقلاّ نشأ في الفلسفة إلاّ أنّها شديدة الاتّصال والتأثير في علم الدلالة واللسانيّات. وأشهر تلك النظريات المؤثّرة  نظريّة الأعمال اللغويّة ونظريّة الاستلزامات المحادثيّة ونظريّة المناسبة.
1- نظريّة الأعمال اللغويّة بين سورل وأوستين:
صاغ هذه النظريّة كلّ من أوستين ثمّ سورل وهي تتعلّق بمفهوم العمل اللغويّ بما هو تعبير عن اعتقاد المتكلّم حول القضيّة. فالقضيّة (زيد كريم) توجد حولها في أقوال كثيرة دلالة إنشائيّة تداوليّة غير صدقيّة تعبّر عن أعمال مختلفة منها الإخبار (زيد كريم) التمنّي (ليت زيدا كريم) والنفي (ليس زيد كريما) والشكّ (لعلّ زيدا كريم)..
تقوم هذه النظريّة على جملة من المفاهيم يمكن أن نتبيّنها من خلال الأمثلة السابقة:
- العمل القضويّ: هو القضيّة المشتركة بين الأقوال السابقة: (زيد كريم)
- العمل اللغويّ: هو ما تسمه اللغة من دلالة إنشائيّة حول القضيّة عن طريق أدوات نحويّة (هل، ليت، لعلّ..)
- العمل المضمّن في القول: هو ما يعبّر عنه اعتقاد المتكلّم ويقصده فعليّا في مقام محدّد. فمثلا لو سخرت ممّن يسبّ زيد وأنت تعرف أنّه كريم فقلت (ليس زيد كريم!) فالعمل اللغوي هو النفي لكن المضمّن في القول هو السخرية.
- عمل التأثير بالقول: هو ما يحدث من ردذة فل حقيقيّة بسب العمل المضمّن في القول، فعند سخريتك لو خرج مغتاب زيد أو احمرّ وجهه غضبا فذلك السلوك الفعليّ تأثير بالقول.
- القوّة القوليّة : هي القيمة الدلاليّة للقول فتكون نفيا أو سخرية أو تهديدا. فلو قلت لمن اشترى هدية لم تعجبك: "هل هذه هديّة يشتريها الناس؟" لكانت قوّة القول هي اللوم لا الاستفهام ولو قلت لك "هل أنت جائع؟" لكانت قوّة القول هي الاستفهام. قوّة القول إذن يمكن أن تناسب العمل اللغويّ إذا اكتفينا به وقد تناسب العمل المضمّن في القول إذا قصدنا غير ما وسمته اللغة.
- الفعل الإنشائيّ: هو فعل افتراضيّ نقيس بها قوّة القول. ففي المثال "هل أنت جائع" قوّة القول تعبذر عن الفعل "أستفهم" وفي المثال: :"هل هذه هديّة يشتريها الناس؟" قوّة القول نقيسها بالفعل "ألوم".
كان سورل قد طوّر نظريّة سورل وراجع تصنيف الأعمال اللغويّة التي اقترحها أوستين دون أن يخرج عن أساسيّات النظريّة. وقد نقد شكري المبخوت في كتاب دائرة الأعمال اللغويّة هذه النظريّة وراجع تصنيفها فهي عنده نظريّة فلسفيّة والعمل اللغويّ في رأيه يمكن النظر إليه من منطلق بلاغي ضمن مفهوم الإنشاء الطلبي وغير الطلبيّ.
ب- الاستلزام الحواري عند بول غرايس:
تقوم هذه النظريّة على جملة من المبادئ أهمّها الاهتمام بالعمل اللغويّ غير المباشر (المتضمّن في القول حسب نظرية أوستين). وتركّز على تحقيق هذا العمل وما يتعلّق به عند إجراء محادثة بين طرفين من استلزامات ومعاني. فالمتحادثون يلتزمون بما يشبه العقد الثنائي وفق مبادئ وهي:
* الجمل الخبريّة ليست كلها خاضة لشروط الصدق. فقولي مثلا "حان الوقت" لا أخبر به عن موعد بل أطلب إنهاء الحديث.
* توضيح طريقة الانتقال في التأويل من الشكل اللغويّ الحرفيّ إلى متضمّنات القول. مثلا عن طريق التنغيم أو قسمات الوجه.
* وجود إطار منطقيّ ونفسي مشترك لتبادل الكلام ونجاح المحادثة يعبّر حيث يتّفق المتحادثان على احترام جملة من التعليمات الحواريّة. يقول غرايس: "ليكن إسهامك في الحوار مطابقا لما يفرضه عليك هدف المحادثة وتوجّهها الذي التزمت به". يتحقّق ذلك من خلال أهمّ مبدأ في النظريّة وهو التعاون (cooperative principle). وأهمّ خصائصه:
الكم: quantité القدر المطلوب من القول/ الكيف: qualité قول ما تعتقده صادقا/ المناسبة: pertienece أن تقول باقتصاد ما يناسب فائدة المحادثة/ الصيغة: modalité الوضوح واجتناب اللبس والفوضى والتعميم.
هناك إذن معاني صريحة تقال (قضوية، أعمال لغويّة) وهناك معاني ضمنيّة مثل الاقتضاء واستلزامات المحادثة.
ج- نظريّة الإفادة عند سبيربن وولسن:
نظريّة عرفانيّة تداوليّة مثّلت تركيزا على مبدأ المناسبة (pertienece). القول المستعمل في الحوار يكون مناسبا للفائدة من الحوار. أن تقتصد في القول فلا تستخدم من الدلالة إلا ما يفيد الحوار. فاللغات في نظامها قائمة على الاقتصاد في الاستعمال ويخضع ذلك لنوع من الاستدلال في مقام التخاطب فالمتكلم يعطي إشارات يقوم السامع بتأويلها في فهمه ويستدلّ على دلالتها بذهنه. المتكلم ينتقي دائما القول الأكثر تعبيرا وممتلئا بالدلالات المناسبة بأقل مجهود ذهنيّ. وهو لا يبذل جهدا جديدا في قول جديد إلا إذا كان المقام يتطلب ذلك حسب مبدأ المناسبة. فكل مجهود عرفاني ذهني يناسب تأثيرا مقصودا في المقام وفهم السامع. قيمة هذه النظريّة  تكمن في ربطها لأوّل مرّة بين العرفانيّة والتداوليّة. فجمعت بين نظام اللغة الذهنيّ وأبعاده التداوليّة المقاميّة.


الدرس الثالث: قضايا المعنى في الدلالة التركيبيّة

اضغط هنا لتحميل الدرس:  الدرس الثالث الدلالة التركيبيّة


                                   قضايا المعنى في الدلالة التركيبيّة  
تعني الدلالة التركيبيّة المعنى الذي يحدثه التركيب، فإذا كان للمفردة معنى في المعجم فإنّ دخولها في علاقات سياقيّة مع اقي الكلمات في الجملة ينتج معاني نحويّة تنضاف إلى الدلالة المعجميّة. فمثلا لو سلّمنا أنّ كلمة "عين" لها جملة من السمات الدلاليّة المعجميّة فإنّ دخولها في تركيبين نحويّين مختلفين مثل (أصابته عينٌ/فرك عينَه) يضيف إليها دلالة نحويّة غير معجميّة مثل القائم بالحدث أومتقبّله. وتهتمّ الدلالة التركيبيّة (sémantique synataxique) بالعلاقات الدلاليّة التي تنشأ بين العلامات اللسانيّة في الجملة. وهي تطرح قضايا كثيرة تتّصل بالمعنى عموما وكيفيّة انتظامه داخل التركيب. ومن أهمّ الاسئلة التي تطرحها:
- ما هي علاقة الدلالة النحويّة بالدلالة المعجميّة؟
- هل تمثّل دلالة الجملة مجموع دلالات الكلمات التي تشتمل عليها؟
- ما هي علاقة الدلالة بالتركيب النحوي؟ وأيّهما يتبع الآخر؟
- ما هي الأسس المنهجيّة التي يمكن أن نقيم عليها تصوّرنا للدلالة التركيبيّة؟
- ما هي أبرز تأثيرات العلوم الصحيحة والإنسانية في تصوّر الدلالة التركيبيّة للجملة؟

نركّز في درسنا على أهمّ المقاربات النظريّة التي تناولت المعنى التركيبيّ المتحقق في الجملة ويهدف درسنا إلى التعرّف على مختلف المنهجيّاتوالخلفيّات الفلسفية وراء كلّ مقاربة. لكنّنا لا نأخذ بعين الاعتبار تأثير المقام والسياق في دلالة التركيب فهي من مشمولات الدلالة التداوليّة.
I- أهمّ المقاربات المنهجيّة والمؤثّرات الفلسفيّة في نظريّات علم الدلالة التركيبيّ:
1-مناهج  طرح قضايا الدلالة التركيبيّة :
كيف تتحقّق دلالة التركيب؟ هل هي حصيلة المعاني المعجميّة للكلمات أم هي دلالة جديدة تنضاف إلى تلك المعاني؟ 
أين تتحقّق تلك الدلالة التركيبيّة؟ هل تتحقّق في نظام اللغة؟ أم في الجانب الذهني/النفسي للمتكلمين؟  أم هي ثمرة تفاعل المتكلم مع محيطه الطبيعيّ؟
كيف يمكن أن نضبط هذه الدلالة؟ عن طريق مفهوم القضيّة المنطقيّة؟ عن طريق الافتراض؟ أم عن طريق مفاهيم نفسية وعصبيّة؟
يمكن أنّ نميّز جملة من المقاربات المنهجيّة في حاولت الغجابة عن هذه الأسئلة المتعلقة بالدلالة التركيبيّة:
- الطرح الشكليّ البنيويّ: المعنى يوجد في نظام اللغة. فهل يمكن أن يكون المعنى التركيبي بنية مترابطة مثل الشكل؟
اعتبار دلالة الجملة بنية قابلة للتحديد وهي توجد في نظام اللغة. وهذه المقاربة توجد عند البنيويّين ومن أبرزهم تنيار.
- الطرح الافتراضيّ: الدلالة لا يمكن أن نعاينها مثل اللفظ. فهل يمكن اعتبار المعنى في الذهن بنية افتراضيّة ينشئها اللسانيّ تخييلا لغاية التفسير؟
اعتبار الدلالة التركيبيّة بنية شكليّة افتراضيّة فيقوم اللسانيّ بافتراض بنية شكليّة تمثّل المعنى ولذلك يمكن صياغتها صياغة رياضيّة رمزيّة. وونجد هذا الطرح في نحو منتاغ واللسانيّات التوليديّة. (البنية العميقة، الفضاءات الذهنيّة...)
- الطرح المنطقيّ: دلالة الجملة تساوي مفهوم القضيّة المنطقيّة. فهل يمكن تمثيل هذه البنية الدلاليّة بصيغة رمزية مجرّدة مثل الصياغة المنطقيّة؟
يقع قياس البنية الدلاليّة للجملة عن طريق القضيّة المنطقيّة. وهذا التصوّر نجده عند الفلاسفة واللسانيّين (الدلالة المنطقيّة)
- الطرح النفسيّ الذهنيّ: دلالة الجملة تتعلق بما يحدث النفس من فهم. فهل يمكن اعتبار بنية المعنى بنية ذهنيّة توجد أساسا في تصوّر المتكلّم أوالسامع؟
 دلالة الجملة غيرلا توجد في اللفظ أو في الجمل المنجزة بل هي توجد في ذهن المتكلّم فالمعنى له طابع نفسي. ولذلك تستفيد المقاربات التوليدية والعرفانية من علم النفس لتخييل مقولات الدلالة في نفس المتكلّم (المكوّن المنطقي، الخطاطة، الطراز...).
- الطرح الطبيعيّ: هل يكون تركيب المعنى بمعزل عن تجارب الإنسان المادية والثقافية وأشكال حضوره جسده في الطبيعة؟
النظريات الدلالية العرفانيّة تستفيد من العلوم الطبيعيّة وتبحث عن نظام طبيعي للمعنى فتستعير المفاهيم التي توصّلت إليها معرفة الإنسان بطريقة اشتغال الدماغ واستيعابه للمعنى لدراسة نظام الدلالة في الجملة؛ مثل الخطاطة والطراز والصورة...

بعض هذه المقاربات يمكن أن تتقاطع وتجتمع في طور واحد أو نظريّة واحدة. فلا يمكن تصنيف قضايا الدلالة التركيبيّة ومنهجها تصنيفا تاريخيا بحسب تعاقب المدارس (بنيوية-توليدية-عرفانية) للأسباب التالية:
* نفس القضيّة يمكن أن تتناولها أكثر من مدرسة (علاقة المعجم بالنحو، العلاقة بين الدلالة والتركيب، حساب المعنى...).
* وجود مشترك منهجي بين هذه النزعات الكبرى (الشكل بين التوليدية والبنيوية/النفسية بين التوليدية والعرفانية...).
* وجود روّاد سبقوا عصرهم وخالفوا النزعة التي هيمنت في عصرهم (غيوم: بذور الطرح النفسي العرفاني للمعنى).
* تنوّع المقاربات الدلاليّة ضمن نفس النزعة ونفس المدرس اللسانيّة (العرفانيّة: طرح نفسي/ذهنيّ/طبيعيّ).
2- أهمّ المؤثّرات الإبستيمولوجيّة:  الأساس المنطقيّ للجملة
أ- الاعتماد على المنطق الأرسطي (المنطق ثنائيّ القيمة) : دلالة الجملة = قضيّة صادقة/كاذبة تصف الواقع
- حسب التصوّر المنطقيّ الأرسطيّ الجمل التي ننشئها تعبّر في الذهن عن قضيّة proposition أي عن خبر قابل للتصديق أو التكذيب. ومفهوم القضيّة يعني فكرة مركّبة في الذهن تتكوّن من أجزاء وهي:[الموضوع argument + المحمول préicat]. ورابطة أو نسبة تجمع بينهما. (إثبات/نفي). مثلا: "الطقس جميل" أو "الأمل هو المطلوب" هذان قولان يحمل كل واحد منهما قضيّة نعبّر عنها منطقيّا بـ [موضوع & محمول]. ويكون الرابط موسوما (هو) أو غير موسوم. القضيّة تكون إمّا حمليّة أو شرطيّة. تسمّى حمليّة لأنّنا نحمل الموضوع على حكم مثل إثبات شيء لشيء (الطقس جميل) أو نفي شيء عن شيء (ليس الطقس جميلا). وتسمّى القضيّة شرطيّة بمعنى مركّبة من قضيّتين تجمع بينهما رابطة. فلا تحقّق القضيّة إلا بشرط تحقّق قضيّة ثانية. مثل  إذا اجتهدت فستنجح [قضيّة1] فـ [قضيّة2].
ب –تأثير التصوّرات المنطقية المعاصرة : دلالة الجملة = قضيّة تحليليّة لا تصف الواقع ضرورة
 يقوم المنطق المعاصر على تصوّرات جديدة تخالف منطق أرسطو الذي يعتمد على قيمتي الصدق/الكذب ومدى مطابقة القضيّة للواقع (ثنائيّ القيمة). بدأت جذور المنطق المعاصر مع لايبنز Leibniz في القرن 17 ثم شهد نقلته الأساسيّة على يد كارناب Carnap ورسل Russell وفريغه Frege ليصبح منطقا رياضيا شكليا  قابلا للصورنة. فأصبح منطقا متعدّد القيم لأنّ القضيّة المنطقيّة صارت تعبّر عن المعاني الممكنة غير الخاضعة لثنائيّة التصديق والتكذيب.
لاحظ المناطقة الاختلاف بين دلالة الألسنة والحساب المنطقي بسبب تعدد الاحتمالات في اللغة الطبيعية والإحالة على أكثر من شيء. في حين يعتمد المنطق المعاصر على الشكلنة لكنّ المناطقة المعاصرين اعتبروا أنّ الجملة في اللغة الطبيعيّة تحتمل معاني متعدّدة ومن الصعب صياغتها صياغة شكلية تعبّر عن معنى واحد فبرزت الوضعيّة المنطقيّة والصياغة الرمزيّة الصارمة المتأثّرة بالرياضيّات التي تطمح إلى صياغة المعنى بطريقة شكليّة رياضيّة. حتّى برز اختصاص عند فلاسفة اللغة والمنطق يعرف بالدلالة المنطقيّة أو الشكليّة (sémantique logique/formelle).
لكن في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ المناطقة يراجعون استنقاصهم للألسنة البشرية من حيث القابلية للشكلنة بما في ذلك علم الدلالة. فساهم التطوّر المعاصر لننظريّة المنطق وتفاعلها مع الفلسفة واللسانيات في تطبيق مفاهيم المنطق على اللغة الطبيعيّة في مجال اللسانيات وفلسفة اللغة. واستفاد من ذلك علماء الدلالة كثيرا عندما حاول اللسانيون شكلنة دلالة الجملة وصياغتها صياغة منطقيّة شكليّة. من ذلك اعتمادا النحو التوليدي والنظريّات اللاحقة له والنظريات التداوليّة على مفهوم القضيّة: (المكوّن المنطقي في النحو التوليديّ/نظريّة الأدوار الدلالية / نظريّة الحالات الإعرابية عند فيلمور ...).
أصبح للمنطق المعاصر اتّجاهات متعدّدة في تناول القضيّة (منطق المحمولات، منطق الجهات، المنطق الرمزي) ومن أبرز المفاهيم المعاصرة التي استثمرها علم الدلالة مفهوم العوالم الممكنة الذي كرّس مبدأ الاحتمال والإمكان وحرّر مفهوم القضيّة من المقارنة مع الواقع. فخرج تصوّر دلالة القضيّة من ثنائيّة الصدق والكذب. فدلالة هذه القضيّة مثلا "رست بي الأحلام على ضفاف الخيال" تبدو غير خاضعو لمنطق الصدق والكذب لأنّها دلالة ذاتيّة ممكنة منسجمة داخليّا وليست صادقة أو كاذبة.
ج – تأثير العلوم العرفانيّة:
علم الدلالة هو أبرز اختصاص في اللسانيّات العرفانيّة. ولا يمكن فهم اللسانيّات العرفانيّة إلاّ ضمن شبكة من العلوم العرفانيّة التي تتناول كل ماله صلة بالذهن من مقولات الفكر ونشأة المعنى وتنظيم المعرفة وآليّات الإدراك. (علم النفس العرفاني، الذكاء الصناعي، البيولوجيا، الفلسفة التحليليّة، علوم الأعصاب) ولذلك استفاد علم الدلالة من هذه العلوم ومن أبرز مفاهيمها مثل الخطاطة والطراز والصورة والذاكرة. وتقوم تصوّرات العرفانيّين على فكرة ارتباط المعنى في الذهن بأسس طبيعية حيث يتفاعل الذهن مع المحيط الاجتماعي والثقافي والطبيعيّ.
الدلالة في الجملة تدرس من خلال طريقة تنظيم المقولات في الذهن (المَقْولة) ووتجريد المعاني في بنية شكلية مغرقة في التجريد (الخطاطة) ودراسة علاقة المفاهيم المجرّدة بطريقة تقبّلها وفهمها عن طريق الجسد (الجسدنة) وعلاقة المفاهيم الذهنيّة المجازية بالعالم المادّي (الاستعارة التصوّريّة). ليس مستغربا حينئذ أن يمرّ فهمنا للمفاهيم الدلاليّة في علم الدلالة العرفاني بعلم النفس العرفاني وعلوم الأعصاب والفلسفة والذكاء الصناعيّ.
II- أهمّ قضايا الدلالة التركيبيّة في نظريّات علم الدلالة:
أثارت مختلف النظريّات الدلاليّة العلاقة بين الوظيفة النحويّة للكلمة (وظيفة شكليّة) والوظيفة الدلاليّة التي تحدثها علاقاتها في التركيب (الدور الدلاليّ). فمثلا لو قلنا "انهزم الفريق" أو "اهتزّ المرمى" نلاحظ أنّ وظيفة الكلمتين المسطّرتين هي الفاعل ومعناهما النحويّ الشكليّ هو الفاعليّة. لكن من الناحية الدلاليّة نجد كلاهما متقبّلا للفعل مفعولا به دلاليّا. يعني ذلك التمييز بين بنية نحويّة للجملة وبنية دلاليّة قد يتطابقان (انتصر الفريق) وقد يتخالفان (انهزم الفريق). ويمكن أن نميّز بين جملة من التصوّرات النظريّة في هذا الخصوص: الفصل بينهما أو تغليب إحداهما على الأخرى.
1- الفصل بين البنية الدلاليّة والبنية النحويّة:
يُطرح الفصل بين البنية الدلاليّة والبنية النحويّة للجملة في الكثير من الأقوال. فمثلا هذا القول "انهزم الجيش" يكون فيه "الجيش" فاعلا نحويّا متكفّلا بالحدث لكنّه من الناحية الدلاليّة يكون مفعولا متقبّلا للحدث. لكنّ هذا الفصل في اللسانيّات لم يقع الانتباه إليه إلا مع تنيار وعلماء الدلالة المتأثرين بالمنطق. فمنذ البداية اهتمّ البنيويّون بالشكل اللغويّ للكلمة وكان حظّ الجملة ودلالتها من اهتمامهم ضئيلا. وأمّا الذين اهتمّوا بالجملة فقد انصبّت جهودهم على دراسة بنية الجملة من جهة العلاقات النسقيّة وتوزيع مكوّناتها في القول. واستبعدوا بذلك دلالة الجملة من دراستهم. وأبرز مثال على ذلك المدرسة التوزيعيّة التي أقصت المعنى من اهتمامها. لكنّ بعضهم ميّز بين البنية النحويّة للجملة والبنية الدلاليّة. وأبرزهم من البنيويّين الذين ميّزوا بوضوح بين المستويين النحويّ والدلاليّ اللساني الفرنسي ليسيان تنيار (Lucien Tesnière) في نظريّته حول النحو البنيويّ. يبرز هذا التمييز في فصله ضمن كلّ جملة بين بنية نحويّة قائمة على التعليق البنيويّ وبنية دلاليّة قائمة على التعليق الدلاليّ. فمثلا في القول "الطقس جميل" نجد في البنية النحويّة عنصرا يهمن على التركيب (المهيمن régissant) وعنصرا متحكّما فيه يتقبّل الهيمنة النحويّة (متعلّق به subordonné) ويقع تمثيله من الأعلى (المهيمن) إلى الأسفل (المتعلّق به). ونجد في البنية الدلاليّة عنصرا يتقبّل التخصيص الدلاليّ (المخصَّص déterminé) ونجد عنصرا آخر يقوم بتخصيصه ووصفه دلاليّا (المخصِّص déterminant).
يقع تمثيل التعليق الدلاليّ من الأسفل (المخصِّص) إلى الأعلى (المخصَّص) لأنّ كلمة "جميل" تقوم بتخصيص كلمة "الطقس" وتخبر عنها، فهي القائمة بفعل التخصيص الدلالي. ونلاحظ أنّ هذه خصائص هذه البنية الدلالية متأثّرة بمفهوم مفهوم القضيّة المنطقيّة حيث يخصّص المحمول الموضوع ويصفه دلاليّا.
2- العلاقة بين البنية النحويّة للجملة والبنية الدلاليّة بين التوليديين والعرفانيّين:
أ- علاقة الدلالة بالنحو في النحو التوليديّ:
اعتبر شومسكي وأتباعه في النحو التوليديّ أنّ الجملة توجد في الذهن في شكل  بنية نحويّة شكليّة مفترضة [بنية عميقة: فعل +فاعل + م به] وهي قابلة للتعديل (التحويل) فطرأ عليها تغييرات في البنية السطحيّة قبل النطق بها [م به + فعل+ فاعل]. هذه هي البنية الأساسيّة للجملة عنده وهي بنية نحويّة شكليّة أمّا الدلالة فهي مكوّن ثانويّ تابع للنحو وظيفته ملء تلك المكوّنات بالمعنى [أدّب الرجلُ الطفلَ←الطفلَ أدّب الرجلُ]. لكنّ النقاش الذي أثاره النحو التوليديّ حول دور المكوّن الدلاليّ ساهم في تطوير النظريّات المتعلّقة بالبنية الدلاليّة للجملة وبرزت بسبب ذلك النقاش مدارس دلاليّة أبرزها الصراع بين الدلالة التأويليّة والدلالة الوليديّة.
ب –الدلالة التأويليّة وأسبقيّة التركيب على الدلالة:
يقوم النحو التوليدي على فكرة أساسيّة قوامها أنّ الجملة تولد في ذهن المتكلّم في شكل تركيب شكليّ في مستوى البنية العميقة. وبعد اكتمالها يأتي المكوّن الدلالي لاحقا فيملؤها بالمعنى ويصفها أيّ يؤوّلها. فمثلا تولد الجملة التالية "العلم نور" في شكل مجرّد يكون خاليا من المعنى (مسندإليه+مسند) هذه النظرة تعكس تصوّرا يعتبر التركيب بنية ذهنيّة مستقلّة عن الدلالة. ويتبنّى شومسكي وتلاميذه (كاتز فودور بسطل جاكندوف) موقفا من المعنى قوامه أنّ وظيفة الدلالة هي أن تؤوّل التركيب ولذلك سمّي هذا التيّار بالدلالة التأويليّة. فالدلالة تأ تي لاحقا لتأوّل التركيب الشكلي ذي المنزلة المركزيّة في النحو التوليديّ.
ضمن هذا التيّار ازدهرت النظريّات التوليديّة المتأثّرة بالمنطق والتي تهتمّ بصياغة البنية الدلاليّة المنطقيّة للجملة. من ذلك نظريّة الأدوار المحوريّة (rôles thématiques) أو نظريّة ϴ (تِيتَا) التي طوّرها جاكندوف عندما كان متبنيا للنحو التوليدي (سيصبح لاحقا من أعلام العرفانيّة) وهي تعني أنّ كلّ عنصر في التركيب ينتقي دورا محوريّا واحدا أي وظيفة دلاليّة مثل (المنفّذ، الأداة المستفيد، المصدر، الهدف، المتاثّر...). وبذلك تكون للجملة بنية منطقية دلاليّة:
[المحمول  + المنفّذ + المتقبّل+المستفيد+المكان+ الزمان+ الهيأة+ الهدف]
   أعطى    الرجل    النقود     للطفل               اليوم            حبّا فيه
ساهم شارل فيلمور 1968 (Filmore) في تطوير هذه النظريّة لاحقا بمفهومين مشابهين.عند نقده لمركزيّة التركيب في النحو التوليدي. فاقترح مفهوم الحالة الإعرابيّة والدور الدلاليّ . وهو من مؤسّسي اللسانيّات العرفانيّة (انظر الجدول آخر الدرس).
ج –الدلالة التوليديّة وأسبقيّة الدلالة على التركيب:
تمرّد بعض تلامذة شومسكي على مسلّمة النحو التوليديّ (الدلالة تتبع التركيب) فقلبوا المعادلة لتصبح: التركيب يتبع الدلالة (لايكوف George Lakoff – روس  John R. Ross – ماكاولي  James McCawley - بوسطل Postal Paul). وقد اعتبر هؤلاء دلالة الجملة تنشأ مباشرة في البنية العميقة ثمّ بعد ذلك تتّخذ شكلا نحويّا. وهم بذلك بنوا فرضيّة جديدة معاكسة انتقلت من مركزيّة التركيب إلى مركزيّة الدلالة (النحو يحدّد الدلالة ←الدلالة تحدّد النحو). وتكمن إضافتهم في اعتبار البنية العميقة ليست بنية شكليّة بل بنية دلاليّة منذ البداية. لكنّ هذا التيّار الذي عرف بالدلالة التوليديّة (الدلالة تولّد الجمل) لم يعمّر كثيرا مع انتقال اللسانيات تدريجيّا من طورها التوليدي إلى طورها العرفاني فقد مهّد هؤلاء لهيمنة العرفانيّين وأصبح كثير منهم عرفانيّين متخلّين عن المقاربة التوليديّة.
3- مركزيّة الدلالة التصوّريّة عند العرفايّين:
اعتبر العرفانيّون أنّ دلالة التركيب ليست حقيقة لغويّة توجد في الألفاظ فهي ليست قضيّة تأليفيّة ترتبط بالعالم الخارجيّ. بل هي حقيقة ذهنيّة في شكل بنية تصوّريّة مجرّدة ينشئها المتكلّم أو السامع (قضيّة تحليليّة) ويستند العرفانيّون في ذلك إلى جملة من المفاهيم الجديدة التي أحدثت ثورة في علم الدلالة ( المفهمة – المَقْوَلة – الخطاطة – الاستعارة التصوّريّة ).
تعني الدلالة التصوّريّة أنّ معنى الجملة يتحدّد في تصوّر المتكلمين وفي أفهام السامعين. فالتركيب اللغوي لم يعد هو مركز الاهتمام كما كان عند البنيويين بل هو مجرّد بنية لفظية ترمز لما يحدث في الذهن من بنية دلالية تصوّريّة. وقد تبنّت اللسانيات العرفانيّة من خلال نظريّات كثيرة في علم الدلالة العرفانيّ هذا الطرح. وتنوّعت فيها المقاربات لكنّ الجامع بينها اعتبار الدلالة في الذهن ذات طابع تصوّريّ ذهنيّ. ومن أبرز خصائص هذه النظريّات:
* دلالة الجملة لا تتحدّد في التركيب بل في ذهن المتكلّم والسامع (المعنى له طابع تصوّريّ).
* الدلالة التركيبيّة عمليّة بناء منظّم للمقولات في شكل صور ذهنيّة وأشكال ذهنيّة متناسقة ومترابطة (الطابع الخطاطي للمعنى).
* الدلالة التركيبيّة ليست بنية جاهزة بل ذات طابع حركيّ حصيلة تفاعل بين الذهن والطبيعة واللغة. (البعد الطبيعيّ للمعنى)
 لقد أصبحت دلالة الجملة عند العرفانيّين تتحدّد في الذهن بتأثير المحيط الطبيعيّ وإدراك الجسد فهي عبارة عن بنية تصوّريّة لكنّها متفاعلة مع محيط المتكلّم وحضوره المادّي المتجسّد. ولذلك نجد تاثيرا واضحا لعلم النفس العرفانيّ وبقيّة العلوم العرفانيّة في علم الدلالة العرفانيّ. ومن هذه النظريّات يمكن أن نذكر نظريّة الفضاءات الذهنيّة عند فيلمور ونظريّة لايكوف وجونسون في الاستعارة التصوّريّة ونظريّة لانقاكير في النحو العرفاني ونظريّة جاكندوف في البنية التصوّريّة.
النظريّة العرفانيّة
مؤسّسها
تصوّرها للدلالة


دلالة الأطر
frames semantics


شارل فيلمور
قدّم فيلمور في البداية مفهوم الحالة الإعرابيّة (1968grammaire des cas) وهو مشابه لنظريّة ϴ. وقوامه أنّ الفعل في الجملة مرتبط بجملة من الوظائف الدلاليّة سمّيت في ما بعد الأدوار الدلاليّة وهو بذلك يردّعلى النحو التوليدي. ففيلمور يعتبر البنية الدلاليّة أهمّ من التركيب. ثمّ كانت نظريّته الموسومة بـ"دلالة الأطر"  (1976)من النظريّات المؤسّسة للسانيّات العرفانيّة. ومعنى الأطر أنّ المرء لا يفهم معنى الكلمة في الجملة دون أن يستحضر في ذهنه مجموعة من المعارف المتنوّعة الخاصّة بتلك الكلمة. فالأطر ضرب من البنية الذهنيّة المجرّدة التي تتحدّد حول معنى الكلمة انطلاقا من المعارف والتجارب التي عاشها المتكلم.

النحو العرفانيّ
cognitive grammar

رولاند لانقاكير
تعتبر نظرية لانقاكير أنّ الجمل بما تحمله من بنية نحويّة وألفاظ تمثّل رموزا تقترن ببنية دلاليّة تصوّريّة في الذهن. هذه البنية يقع تمثيلها بصور خطاطيّة لا بقضايا منطقيّة. وهو بذلك لا يفصل بين الدلالة والتركيب بل يعتبرها امتدادا لمفهوم التصوّر. وهو عبارة عن اعتقادات وصور ومفاهيم في ذهن المتكلّم.

الاستعارة التصوّريّة
conceptual metaphor

جورج لايكوف مارك جونسون
المجاز لا يتعلّق بالتراكيب اللغويّة بل بطريقة تفكيرنا وفهمنا للعالم من حولنا. لذلك تتحقّق الاستعارة في تفكيرنا لا في التركيب لأنّ بنيتنا التصورية استعارية وكل تفكيرنا استعاريّ وكلّ خطاب مهما كان مجاله (الأدب، الصحافة، الحياة اليومية) قائم على استعارات تصوّريّة... مثلا نحن نفكّر في المجرّد عن طريق ما نعرفه عن المحسوس: (قيم عالية عادات بالية، حرب باردة)

الفضاءات الذهنيّة
mental spaces

جيل فوكونيي
الفضاء الذهني عبارة عن وضعيّة في شكل بنية تصوّريّة مجرّدة متكوّنة من أطر وعناصر وعلاقات مترابطة تتحقّق في العبارات مثل الحالات الشعورية والرغبات والاعتقادات. هذه الفضاءات لا ترتبط بالواقع المادّي بل تنتج عالما عرفانيّا مؤمثلا. وتمثّل هذه النظريّة امتدادا لمفهوم العوالم الممكنة عند المناطقة (فريغه).

البنية التصوّريّة
conceptual structure

راي جاكندوف
دلالة الجملة تعود إلى بنية تصوّريّة في الذهن. هذه البنية توجد في المستوى الذهني وتخزّن المعلومات الحسّيّة واللغويّة والحركيّة معا. فدلالة أقوالنا وأفكارنا وكل نشاط دلاليّ هو جزء من تلك البنية التصوّريّة. تقوم نظريته على ما يسمّيه الهندسة الثلاثية المتوازية: وجود البنية الصوتيةّ والبنية التركيبيّة والبنية الدلاليّة جميعها في نفس المستوى التصوّريّ. وتعالج كلّها في مستوى البنية التصوّريّة.


قائمة المصادر والمراجع المعتمدة في درس  علوم دلاليّة تجدون روابط التحميل أسفل كلّ مرجع متاح وسيتم تحيين بقية الروابط كلما توفّرت 1 - ...