اضغط هنا لتحميل الدرس الرابع
قضايا المعنى في الدلالة التداوليّة
اهتمّت الدلالة منذ نشأة اللسانيّات بخصائص نظام اللغة سواء في
التراكيب والمفردات اللغوية أو في بنية الذهن كما هو الحال عند البنيويّين والتوليديّين.
فكان التركيز على علاقة المعنى بالشكل اللغويّ (تركيب/مفردة). لكنّ جانبا محدّدا
من تلك العلاقة يتعلّق بعلاقة اللغة بالاستعمال بقي دون الاهتمام النظريّ المطلوب
قبل السبعينات. فدلالة الكلمات والتراكيب اللغويّة ليست فقط نظاما بنيويّا يربط
الشكل بالمعنى ويقبل الوصف والتحديد ضمن قواعد نيويّة وقواعد توليديّة بل هي متفاعلة
مع معطيات المقام من متكلّم وسامع وظروف محيطة بهما. ولذلك نلاحظ أنّ نفس القول
يمكن أن تكون له دلالات مختلفة بين مقامين مختلفين. وهذا الاختصاص الذي يربط
دلالات اللغة بالاستعمال ضمن مقام محدّد هو ما بات يعرف اليوم بالتداولية (pragmatics/pragmatique). ولذلك يمكن أن نميّز
إضافة إلى الدلالة المعجميّة للألفاظ والدلالة التركيبيّة للجملة، ضربا ثالثا من الدلالة
نسمّيه الدلالة التداوليّة.
I- الإطار الفلسفيّ لدراسة الدلالة التداوليّة:
التداوليّة اختصاص لسانيّ أم فلسفيّ؟
1- تأسيس التداوليّة في فلسفة اللغة:
ساهم كلّ من أوستين في وغرايس
في منتصف القرن العشرين في تأسيس التداوليّة (Pragmatics) اعتمادا على من منطلقات
فلسفيّة ترتبط بفلسفة اللغة وهي امتداد للفلسفة التحليلية. لقد كانت أعمالهم ذات
قيمة كبرى وتأثير كبير في علم الدلالة وفي أعمال اللسانيّين. لكنّهم في الحقيقة
يستندون إلى تقليد عريق في مجال دراسة التداول والاستعمال في مجال الفلسفة والمنطق.
هذا التقليد يعود إلى جذور المنطق المنطق المعاصر مع فريغه ومن تاثّر به مثل روسّل
وكارناب وفيتغنشتاين.
أ - جذور فكرة التداوليّة في الفلسفة الذرائعيّة
المعاصرة : Pragmatism
ثمّة تمييز اصطلاحيّ في التقاليد الفلسفية الغربيّة بين مفهومين: النفعيّة
(pragmatism)
و التداولية (pragmatics).
أمّا النفعيّة أوالذرائعيّة فهي تحمل بذور فكرة التداوليّة وترتبط بتيّار
فلسفي هدفه ربط المفاهيم المجرّدة بالمعطيات الاختباريّة وقد نشأت في تيار فلسفي
واسع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أسّسه كلّ من بيرس (Charles Sanders Peirce) وجون ديوي ( John Dewey) وويليامز جايمس (William James). ويعني ضرورة أن تدرس الأشياء انطلاقا من تأثيرها
في الواقع لا في مثاليّتها المتعالية عن الواقع. وكان لهذا التيّار تأثير في
المنطق والسيمياء اللسانيّات. ومن أمثلة ذلك حديث بيرس عن المؤوّل ضمن تصوّره
للعلامة وهو مفهوم معقّد يجمع بين مثاليّة المنطق وواقعيّة السيمياء. ولذلك يمكن
اعتبار فكرة التداوليّة في فلسفة اللغة منتصف الخمسينات عائدة في جذورها إلى هذا
التيّار.
ب- الفلسفة
التحليليّة والدراسة العلميّة للمعنى في اللغات الطبيعيّة:
من امتدادات هذه الفلسفة النفعيّة ظهور الفلسفة التحليليّة منذ أواخر القرن
التاسع عشر وهي نزعة في دراسة اللغة ربطت التفكير بالمنطق المعاصر تجد في مؤسّس
المنطق المعاصر فريغه 1925 (Frege) الملهم الأوّل وتجد في أعمال تلميذه روسّل 1970 (Russell)الأب المؤسّس. الفلسفة التحليليّة قائمة على فكرة قيام تفكير الإنسان على
لغته وهي ذات اتجاهات مختلفة أبرزها الوضعيّة المنطقيّة (كارناب) وفلسفة اللغة
اليوميّة (فيتنغشتاين). فكيف ساهمت هاتان النزعتان الفلسفيّتان بتعاقبهما في ظهور
التداوليّة في فلسفة اللغة.
* تمييز فريغه بين القضيّة التأليفيّة
والقضيّة التحليليّة:
يعتبر فريغه 1925 (Frege) هو المؤسّس للمنطق
الحديث القائم على حساب القضايا وكان تأثيره مباشرا على أبرز أعلامها روسّل
وفيتنغشتاين وكارناب. مشروعه قائم الربط بين المنطق والرياضيات لصياغة المعنى
صياغة شكلية. (logicisme) وقدّم مفاهيم ذات تأثير في الفلسفة التحليليّة
والتداوليّة. كان لفريغه تأثير كبير في الفلسفة التحليليّة التي قادت أعمالها
لاحقا إلى تأسيس التداوليّة. لاحظ فريغه أن القضيّة الحملية عند أرسطو عندما
تتعلّق بموضوع يكن اسم علم (زيد كريم) فإنها تحمل إحالة (زيد يحيل على شخص حقيقيّ)
أمّا المحمول فهو لايحيل بل يقدّم تصوّرا لا يخضع لشروط الصدق لانّه محض تصوّر. أخرج
هذا التصوّر المنطق من ثنائية الصدق والكذب وميّز فريغه بين نوعين من القضايا ضمن
القضيّة الحمليّة: تأليفيّة وتحليليّة، فالقضية التحليليّة ليست خاضعة للمقارنة مع
الواقع لأنّ شروط صدقها ذاتيّة ترتبط بمدى انسجامها المنطقيّ.
وضمن القضيّة
التأليفيّة كون البحث في القضايا المتّصلة
بالإحالة. وضمن استتباعات القضيّة التحليليّة تتنزّل جهود الفلسفة التحليليّة وما
وتصّل إليه التداوليّون من نظريّة الأعمال اللغويّة والاستلزامات في المحادثة.
* استثناء
الوضعيّة المنطقيّة للّغة الطبيعيّة من مشروع شكلنة المعنى:
امتدادا لمشروع فريغه في ربط المعنى
بصرامة الرياضيّات والمنطق ظهرت نزعة منطقية في النصف الأوّل من القرن
العشرين تُعرف بالوضعيّة المنطقيّةpositivisme
logique) ). وقد قادها أدولف كارناب
1970 Carnap))
متأثرا بأفكار روسل وتمثّل ضربا من التجريبيّة المنطقيّة هدفها تفسير الحقائق
العلمية عن طريق معطيات الواقع والتجربة، وفصل الاعتقاددات عن العلم. وتعتبر هذه
النزعة المنطقيّة أنّه لا جدوى من الحقائق العلميّة إن لم تساهم في تغيير الواقع.
فالمفاهيم المنطقيّة ينبغي أن تدرس انطلاقا من استعمالها وتأثيرها في الواقع. ولذلك
تمثّل الوضعيّة المنطقيّة تحوّلا جذريّا في فلسفة المنطق المعاصر. لكنّ صرامة
الطابع الشكليّ لهذه المدرسة المنطقيّة جعلها تقصي القدرات التواصلية الكبيرة في
اللغات الطبيعية فظلّت تستبعد اللغة الطبيعيّة من دراستها بذريعة عدم القدرة على
شكلنتها وصياغتها رمزيّا فكان تركيزها منصبّا على اللغات الصورية المنطقية. وكان
مشروعها تحديد المعنى المنطقي الصارم الكامن وراء اللغة الطبيعيّة.
* نقد فلسفة اللغة اليوميّة للوضعيّة المنطقيّة:
فلسفة اللغة اليومية قامت على نقد
هذه الأطروحة عند المناطقة الوضعيّين. وفي نفس الوقت كانت توسيعا لمبادئ فريغه
وأبرز من أسّسها في مدرسة فيينّا روسّل 1970 (Russell) أب الفلسفة التحليليّة راجعت الفلسفة التحليليّة في
العقد الثاني من القرن العشرين بعض مسلّمات الوضعيّة المنطقيّة حول اللغة
الطبيعيّة وما كان يعتقده المناطقة من أنّ اللغات الطبيعيّة لا تقدّم لنا معرفة
علميّة دقيقة حول نظام المعنى واستعماله. ومن أبرز المؤثرين فيها فيتغنشتاين Wittgenstein
(1951)
الذي
أسّس نزعة تعرف بفلسفة اللغة اليوميّة. وهي نزعة تركّز
على المعنى التداوليّ في اللة الطبيعيّة وتدعو إلى عدم الاكتفاء بالنزعة المنطقيّة
الصارمة فمثّلت بذلك نزعته نقدا وتجاوزا للوضعيّة المنطقيّة. تحدّث فيتغنشتاين عن
مفهوم ألعاب اللغة. أمّا تشبيه اللغة باللعبة فالمقصود به أنّ القضايا التي تعبّر
عنها اللغة اليوميّة المستعملة لا تقاس بمنطق الصدق بل ترتبط باعتقادات المتكلم
بشكل يشبه ألاعيب اللغة. وهو يقصد أنّ معاني الكلمات فضفاضة لكنّ نظامها يتحدّد مثل اللعبة من استخداماتها
المختلفة. ومعنى اللعبة يقتضي أيضا القدرة على إنهاء الغموض في معاني اللغة لأنّ
لكلّ لعبة نهاية ومجموع تلك الاستخدامات يكشف قوانين المعنى في اللغة اليوميّة. ومن
خلال ذلك النقد استعادت اللغة الطبيعيّة مكانتها من خلال دراسة اللغة اليوميّة
المستعملة عند المتخاطبين
وبذلك صارت اللغة الطبيعيّة أساسا علميّا للمعنى وفي صلب اهتمام الدراسة
الفلسفيّة وهذا ما سيمهّد السبيل لفلاسفة اللغة لإنشاء نظريّاتهم حول الأعمال
اللغويّة (أوستين، سورل) والمحادثة (غرايس) والمناسبة (ويلسون & سبوربر).
2 - مساهمة
اللسانيين في دراسة علاقة اللغة بالمقام :
إنّ وسم علم الدلالة
بالتداوليّ يعني أنّ علم الدلالة يتقاطع في اهتماماته مع التداوليّة في الفلسفة.
لكنّ الباحثين يميّزون بين تداوليّة تتبع اختصاص اللسانيّات وتداوليّة تتبع اختصاص
فلسفة اللغة. وقد لاحظ موشلار أنّ تاريخ اختصاص التداوليّة في اللسانيّات يعود إلى
السبعينات من القرن العشرين في حين يعود تارخ اختصاص التداوليّة في الفلسفة إلى
الخمسينات. ويعني ذلك أنّ الباحثين يميّزون بين ضربين من التداولية أحدهما ناتج عن
جهود فلاسفة اللغة والثاني ناتج عن جهود اللسانيّين. ومع أنّ الفلاسفة كانوا
السباقين إلى طرح قضايا اللغة في علاقتها بالاستعمال. فإنّ التنازع بقي مستمرّا بين من يعتبر الدلالات التداوليّة
اختصاصا لسانيّا أصيلا ومن يعتبرها اختصاصا فلسفيّا صرفا. لكنّ الثابت أنّ انفتاح اللسانيين على جهود
الفلاسفة والمناطقة أفرز الكثير من النقاشات والنظريّات والبحوث في مجال الدلالة
التداوليّة. تتعلّق كلّها بما يطرحه استعمال اللغة في مقامات التواصل من إشكاليات
وقضايا.
لكنّ اللسانيّين قبل وصل
جهودهم بجهود الفلاسفة لم يكونوا بمنأى عن فكرة علاقة اللغة بالمقام. صحيح أنّ
اللسانيّين في النصف الأوّل من القرن العشرين كان مبلغ همّهم هو تحديد خصائص
النظام سواء في اللغة عند البنيويّين أو في الذهن عند التوليديّين. تعني التداولية
في اللسانيّات أنّ بعض عناصر اللغة من مفردات وتركيب لا يمكن فهم دلالتها إلا من
خلال ربطها بالمقام. وتعود الفكرة الأولى لتدخّل المقام إلى أعمال دي سوسير
وجاكبصون حين أكّدوا على الوظيفة التواصليّة للغة. لكن ينبغي انتظار قدوم بنفنيست لتظهر أولى أعمال
اللسانيات التي تحمل بذور التداولية اللسانيّة (Problèmes
de linguistique générale 1966) حيث تناول علاقة اللغة بحدث التلفّظ (لسانيّات التلفّظ) بما يعنيه ذلك من
استحضار عناصر المقام من متكلم وسامع وظروف إلقاء القول. كما ساهم غرايس رغم
تكوينه الفلسفي بنظريته حول الخطاب واستلزامات المحادثة. ومن اللسانيّين
التداوليين المشهورين نذكر جاك موشلار وزوجته ىن روبول وكذلك أوزوال ديكرو.
ويبدو أنّ فكرة التداوليّة تطرح من زاوتي نظر متنازعتين عند اللسانيّين: هل
يمكن اعتبار المعنى التداولي من اختصاص علم الدلالة (دلالة مدمجة) أمّ المعاني
التداوليّة اختصاص خارج عن اهتمام اللساني وجزء من اهتمام الفلاسفة التداوليّين؟
أ- علاقة
الدلالة بالتداوليّة: التداوليّة المدمجة / التداولية الجذريّة.
يمكن التمييز في علاقة علم دلالة بالتداوليّة بين تصوّرين نظريّين متناظرين
لا يزالان متصارعين: أحدهما يعتبر التداولية جزءا من دلالة النظام اللغويّ. (وجهة
لسانية) والثانية تعتبر أنّ التداوليّة ليست جزءا من دلالة اللغة بل شيئا منفصلا
عن النظام النحويّ.
* التداوليّة المدمجة:
تعني أنّ المعاني التداوليّة في استخدام اللغة جزء من علم الدلالة. وأبرز
من استخدم هذه الاطروحة ديكرو في دراسته للحجاج. ويقوم هذا التصوّر على فكرتين:
- الفكرة الأولى: اللغة لها وظيفة
غير وصفيّة للواقع. فهي لا تصفه بل تنشئ أعمالا لغويّة تعبّر عن ذات المتكلّم مثل
الوعد والتهديد والتأكيد والاستفهام والإخبار.فدلالات اللغة بذلك تعود إلى وظيفتها
التواصليّة التي حدّدها جاكبصون في شكل : باث ← متقبّل. وبذلك فالجانب
التداولي في صلب نظام اللغة ألم يعتبر دي سوسير اللغة نظاما وظيفته التواصل؟
- الفكرة الثانية: فهم أيّ قول
يعني فهم دواعي إلقائه من خلال مقام التلفّظ. يقول ديكرو 1980: "إنّ معنى قول
ما هو صورة لعمليّة إلقائه". فلكلّ مقال مقام يتحكّم في دلالاته. ويعني ذلك
أنّ للقول إحالة انعكاسيّة: أي أنّ القول يحيل على نفسه (إنشاء الاستفهام الوعد
التهديد...) فالقول ليس وصفا للأشياء في الخارج (ليس إحالة) بل إنشاء لعمل لغويّ.
وهو بذلك حقيقة تحليليّة ولا يحيل بالضرورة على حدث أو مرجع في الواقع .
* التداوليّة الجذريّة:
المعنى التداوليّ في هذا التصوّر ليست جزءا من علم الدلالة بل هو منفصل
عنه. لأنّه خارج نظام اللغة وبذلك تكون التداوليّة نظرة فلسفيّة وليست شيئا يقتضيه
نظام اللغة. فالقول من الناحية المنطقيّة عموما يحمل جوانب صدقيّة تهتمّ بها
الدلالة وجوانب غير صدقيّة تهتمّ بها التداوليّة بشكل منفصل.
مثلا القول " وأخيرا أحمد اشترى مرسيدس" يحمل جوانب صدقيّة
(إحالة أحمد على شخص حقيقي وارتباط المرسيدس بمقولة السيارة حسب منوال ش ض ك..)
لكنّ القول يحمل جوانب غير صدقيّة وهي اقتضاءات واستلزامات لم يذكرها القول ومنها:
(واجه أحمد صعوبات قبل شراء السيارات، فشل أحمد سابقا في شراء السيارة، لم يملك
أحمد من قبل هذا النوع من السيارات، أحمد غنيّ...). الدلالة التداوليّة هي إذن هذه
الجوانب غير الصدقيّة الخارجة عن نظام اللغة والتي يكشفها المقام عن طريق الاقتضاء
والاستلزام.
ب - أهمّ القضايا والمفاهيم التداوليّة في علاقتها بعلم
الدلالة:
يمكن أن نحدّد مجموعة من المفاهيم والقضايا التي ترتبط بالدلالة التداوليّة
وهي تتناول علاقة اللغة بالمقام:
* من الجملة إلى القول: التداوليّة لا تدرس
دلالة الجملة لأنّ ذلك من مشمولات الدلالة التركيبيّة (الفاعلية، المنفّذ،
الموضوع، المحمول...) ما تدرسه التداوليّة هو القول. ويعني القول وجود مقام
يؤثر في دلالة الجملة المنطوقة. إذن التداولية مجالها الإنجاز (القول) وليس النظام
(الجملة).
* المقام : يتدخّل المقام في تحديد
دلالة القول فهو عنصرأساسيّ لتحقيق التواصل. ويتمّ التواصل عند جاكبصون من خلال
جملة من العناصر:( باث متقبل قناة سنن رسالة مرجع). نلاحظ أنّ الرسالة التي يراد
تبليغها من القول تتغيّر بتغيّر عناصر المقام: زمان/ مكان /باث/ متقبّل. فمثلا
القول "صباح الخير" يتحوّل من الجدّ إلى الهزل إذا نطقناه في العشيّة
بدلا من الصباح.
مثال التحية وتغيّر الأزمنة والأمكنة. ونلاحظ أنّ القول يحمل الكثير من
المشيرات المقاميّة التي تساهم في تحديد دلالة الجملة مثل اسم الإشارة وضمائر
المخاطب والمتكلّم.
* القضيّة: هي المضمون الدلاليّ
للقول. القضيّة مفهوم منطقيّ يتكوّن في معناه البسيط من عنصرين:
[موضوع]+[محمول] وتسمّى عند أرسطو قضيّة حمليّة. ويعني الحمل أنّ العنصر الثاني
المتحدّث عنه (الموضوع) يسند للأوّل صفة أو خبرا (إنّ زيد كريم، هل زيد كريم،
ليس زيد كريم) فالملاحظ أنّ هذه الأقوال تحمل منطقيّا قضيّة واحدة وهي (زيد
كريم) وإنضاف إليها إنشاء المتكلم لعمل (تأكيد، استفهام، نفي...). وتقوم القضيّة
على شروط الصدق عند أرسطو. لكنّ ثورة في علم المنطق حدثت مع فريغه فأخرج تصوّر
القضيّة من ثنائيّة الصدق والكذب عندما ميّز في القضيّة الحمليّة بين نوعين من
القضايا: تأليفيّة تحيل على الواقع وتحليليّة منسجمة داخليّا ولا تصف الواقع فلا
تخضع للصدق والكذب. وضمن النمط الثاني تتنزّل الكثير من أعمال التداولييّن وأصحاب
الفلسفة التحليليّة.
* الحقيقة التأليفيّة (أو التركيبيّة)
.(vérité synthétique) هي القضيّة التي تتعلّق بما يوجد حول
المتكلّم من وقائع وحقائق في العالم. وتقتضي شروط صدقها مقارنة مضمون القضيّة مع
العالم الخارجي غير اللغويّ. ويتوقف صدقها أو كذبها على تطابقها مع العالم
الخارجي. وكل ما ينقل من أخبار أو ما تقوله العلوم الطبيعية أو نشرة الأخبار عن
عالمنا الخارجي باللغة فهو قضايا تأليفيّة. ففي نشرة الأخبار أو البحوث العلميّة
التجريبية يمكن أن ننشئ بالأقوال قضيّة : "وقع البارحة هجوم في
بنقردان"/ "هذا السيّد هو المذنب"/"اشتريت البارحة نصف رطل من
اللحم"/ "يرتفع السحاب بسبب كتل الهواء الساخن").
ضمن هذا المستوى تتحدّد القضايا المتّصلة بالإحالة.
* الحقيقة
التحليلية (vérité
analytique) هي القضيّة التي لا
تتعلّق بما يوجد في العالم بل بفكرة ينشئها المتكلّم وغالبا ما تكون تعريفا عامّا.
وهي تعتمد على تحليل المحمول لحقيقة الموضوع (الأسد حيوان لاحم /إثنان هو مجموع
ثلاثة وستّة/ السندباد طار في السماء) فلا
يتوقف صدقها أو كذبها على الاقتران بشيء ما في العالم الخارجيّ بل على مدى
الانسجام بين مكوّناتها وعدم التناقض بين طرفيها (المحمول والموضوع) كما في
تعريفات العلوم الصورية المجرّدة مثلا حين نقول: "البنية العميقة هي النواة
الأولى للجملة". وتقوم أهمّ مباحث المنطق مثل قواعد القياس والاستلزام
والاقتضاء وعدم التناقض، على مفهوم القضايا التحليليّة. (سقراط إنسان← كل إنسان فان←سقراط فان).
ضمن ها المستوى التحليلي سيميّز التداوليّون لاحقا
الأعمال اللغويّة والاستلزامات في الحوار.
* الاستدلال: ما يقوله المتكلّم أقل
بكثير ممّا يبلّغه. فما يتحقّق بصفة غير مباشرة من دلالات أكثر ممّا يقال ففي
القول كثير من الدلالات التي يمكن استخراجها والاستدلال على وجودها عن طريق مفاهيم
الاقتضاء والاستلزام. وهذان المفهومان حظيا بنظريّات وبحوث كثيرة. امذا دلالة الاقتضاء (présupposition) فهي جملة من المحتويات والمضامين الدلاليّة
(معلومات) تقترن بالكلام المنطوق ويعلم بها المتكلّم مسبقا وتكون ضربا من الأرضيّة
التي يبني عليها دلالة كلامه. وأمّا دلالة الاستلزام (implication) فتتعلّق بمعلومات دلاليّة تنتج عن القول المنطوق
أثناء الحوار فمثلا لو قلت "زيد له فكرة مناسبة". فهذا القول يحمل كثيرا
من الدلالات التداوليّة التي نستدلّ على وجودها منها: أنّ هناك مأزقا ومنها أنّ
الحل سيكون مع زيد ومنها أن زيد شخص ذكيّ ومنها أنّي أعرف زيد مسبقا.
* العمل اللغويّ : العمل اللغويّ هو إنشاء
للمتكلّم للدلالات باللغة. فهو المعنى الاعتقادي الذي ينشئه المتكلّم بالقول
فالمنطق المعاصر يبرز أنّ القول ليس فقط قضيّة نحيل على الواقهع بل هو كذلك إنشاء
لعمل في اللغة (استفهام تأكيد نفي وعد تمنّي تنبيه...)
* الإحالة: كلّ قول هو إحالة على أشياء
موجودة لكن هل يكون المرجع المحال عليه دائما شيئا حقيقيّا؟ هناك إحالة على عوالم
ممكنة توجد في خيال المتكلمين.
II – مساهمة النظريّات التداوليّة في
قضايا علم الدلالة:
لا يمكن تصنيف النظريّات التداوليّة ضمن المدارس اللسانيّة لأسباب نذكر منها
ثلاثا : أوّلا ارتباط نشأتها بالتقاليد الفلسفيّة لا اللسانيّة. وثانيّا لوجود
صلات متأخّرة بين اللسانيّات والفلسفة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. وثالثا
لأنّ التداوليّة ليست نظرية يفي نظام اللغة كما هو الحال في اللسانيات البنيويّة
(التركيز على نظام اللغة بدل الكلام) أو في التوليديّة (التركيز على الكفاءة
الذهنيّة بدل إنجاز الأقوال). لقد دخلت التداوليّة اليوم النزعة العرفانيّة فصرنا نتحدّث في نظريّة المناسبة عن تداوليّة
عرفانيّة مثلها مثل اللسانيات العرفانيّة وعلم الدلالة العرفانيّ فكأنّها نظيرة
لهما. والتداوليّة وإن كانت اختصاصا مستقلاّ نشأ في الفلسفة إلاّ أنّها شديدة
الاتّصال والتأثير في علم الدلالة واللسانيّات. وأشهر تلك النظريات المؤثّرة نظريّة الأعمال اللغويّة ونظريّة الاستلزامات
المحادثيّة ونظريّة المناسبة.
1- نظريّة الأعمال اللغويّة بين سورل وأوستين:
صاغ هذه النظريّة كلّ من أوستين ثمّ سورل وهي تتعلّق بمفهوم العمل اللغويّ
بما هو تعبير عن اعتقاد المتكلّم حول القضيّة. فالقضيّة (زيد كريم) توجد حولها في
أقوال كثيرة دلالة إنشائيّة تداوليّة غير صدقيّة تعبّر عن أعمال مختلفة منها
الإخبار (زيد كريم) التمنّي (ليت زيدا كريم) والنفي (ليس زيد كريما) والشكّ (لعلّ
زيدا كريم)..
تقوم هذه النظريّة على جملة من المفاهيم يمكن أن نتبيّنها من خلال الأمثلة
السابقة:
- العمل القضويّ: هو القضيّة المشتركة بين
الأقوال السابقة: (زيد كريم)
- العمل اللغويّ: هو ما تسمه اللغة من دلالة
إنشائيّة حول القضيّة عن طريق أدوات نحويّة (هل، ليت، لعلّ..)
- العمل المضمّن في القول: هو ما يعبّر عنه
اعتقاد المتكلّم ويقصده فعليّا في مقام محدّد. فمثلا لو سخرت ممّن يسبّ زيد وأنت
تعرف أنّه كريم فقلت (ليس زيد كريم!) فالعمل اللغوي هو النفي لكن المضمّن في القول هو السخرية.
- عمل التأثير بالقول: هو ما يحدث من ردذة فل
حقيقيّة بسب العمل المضمّن في القول، فعند سخريتك لو خرج مغتاب زيد أو احمرّ وجهه
غضبا فذلك السلوك الفعليّ تأثير بالقول.
- القوّة القوليّة : هي القيمة الدلاليّة
للقول فتكون نفيا أو سخرية أو تهديدا. فلو قلت لمن اشترى هدية لم تعجبك: "هل
هذه هديّة يشتريها الناس؟" لكانت قوّة القول هي اللوم لا الاستفهام ولو قلت
لك "هل أنت جائع؟" لكانت قوّة القول هي الاستفهام. قوّة القول إذن يمكن
أن تناسب العمل اللغويّ إذا اكتفينا به وقد تناسب العمل المضمّن في القول إذا
قصدنا غير ما وسمته اللغة.
- الفعل الإنشائيّ: هو فعل افتراضيّ نقيس
بها قوّة القول. ففي المثال "هل أنت جائع" قوّة القول تعبذر عن الفعل
"أستفهم" وفي المثال: :"هل هذه هديّة يشتريها الناس؟" قوّة
القول نقيسها بالفعل "ألوم".
كان سورل قد طوّر نظريّة سورل وراجع تصنيف الأعمال اللغويّة التي اقترحها
أوستين دون أن يخرج عن أساسيّات النظريّة. وقد نقد شكري المبخوت في كتاب دائرة الأعمال
اللغويّة هذه النظريّة وراجع تصنيفها فهي عنده نظريّة فلسفيّة والعمل اللغويّ في
رأيه يمكن النظر إليه من منطلق بلاغي ضمن مفهوم الإنشاء الطلبي وغير الطلبيّ.
ب- الاستلزام الحواري عند بول غرايس:
تقوم هذه النظريّة على جملة من المبادئ أهمّها الاهتمام بالعمل اللغويّ غير
المباشر (المتضمّن في القول حسب نظرية أوستين). وتركّز على تحقيق هذا العمل وما
يتعلّق به عند إجراء محادثة بين طرفين من استلزامات ومعاني. فالمتحادثون يلتزمون
بما يشبه العقد الثنائي وفق مبادئ وهي:
* الجمل الخبريّة ليست كلها خاضة لشروط الصدق. فقولي مثلا "حان
الوقت" لا أخبر به عن موعد بل أطلب إنهاء الحديث.
* توضيح طريقة الانتقال في التأويل من الشكل اللغويّ الحرفيّ إلى متضمّنات
القول. مثلا عن طريق التنغيم أو قسمات الوجه.
* وجود إطار منطقيّ ونفسي مشترك لتبادل الكلام ونجاح المحادثة يعبّر حيث
يتّفق المتحادثان على احترام جملة من التعليمات الحواريّة. يقول غرايس: "ليكن
إسهامك في الحوار مطابقا لما يفرضه عليك هدف المحادثة وتوجّهها الذي التزمت
به". يتحقّق ذلك من خلال أهمّ مبدأ في النظريّة وهو التعاون (cooperative
principle).
وأهمّ خصائصه:
الكم: quantité القدر المطلوب من القول/ الكيف: qualité قول ما تعتقده صادقا/ المناسبة:
pertienece
أن تقول باقتصاد ما يناسب فائدة المحادثة/ الصيغة: modalité الوضوح واجتناب اللبس
والفوضى والتعميم.
هناك إذن معاني صريحة تقال (قضوية، أعمال لغويّة) وهناك معاني ضمنيّة مثل
الاقتضاء واستلزامات المحادثة.
ج- نظريّة الإفادة عند سبيربن وولسن:
نظريّة عرفانيّة تداوليّة مثّلت تركيزا على مبدأ المناسبة (pertienece). القول المستعمل في الحوار
يكون مناسبا للفائدة من الحوار. أن تقتصد في القول فلا تستخدم من الدلالة إلا ما
يفيد الحوار. فاللغات في نظامها قائمة على الاقتصاد في الاستعمال ويخضع ذلك لنوع
من الاستدلال في مقام التخاطب فالمتكلم يعطي إشارات يقوم السامع بتأويلها في فهمه
ويستدلّ على دلالتها بذهنه. المتكلم ينتقي دائما القول الأكثر تعبيرا وممتلئا
بالدلالات المناسبة بأقل مجهود ذهنيّ. وهو لا يبذل جهدا جديدا في قول جديد إلا إذا
كان المقام يتطلب ذلك حسب مبدأ المناسبة. فكل مجهود عرفاني ذهني يناسب تأثيرا
مقصودا في المقام وفهم السامع. قيمة هذه النظريّة تكمن في ربطها لأوّل مرّة بين العرفانيّة
والتداوليّة. فجمعت بين نظام اللغة الذهنيّ وأبعاده التداوليّة المقاميّة.